بحث

الوصول للإيمان بالله بدليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم

الوصول للإيمان بالله بدليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم

بسم الله الرحمن الرحيم

    أيها الأخوة، هناك أدلة فلسفية وعلمية متنوعة جداً على وجود الله، فالإنسان البسيط يرى دليلاً بسيطاً، والفيلسوف يرى دليلاً فلسفياً، والعبقري يرى دليلاً بالغ التعقيد، وكل إنسان في هذه الأرض يجد دليلاً قاطعاً كافياً مقنعاً بحسبه، فهنالك دليل اسمه دليل الإلزام العقلي بين الوجود والعدم.  

    لا يشك عاقل في الدنيا بأن الوجود يقابله العدم، هذا الكأس موجود يقابله شيء واحد ألا يكون موجوداً، الوجود يقابله العدم وأنه لا يوجد حالة ثالثة بين الوجود والعدم، الآن هذان الشيئان: الوجود والعدم إذا وجد أحدهما انتفى الآخر فماذا نسمي هذين الشيئين؟ متناقضين أي أن وجود أحدهما ينقض وجود الأخر، إذا وجد أحدهما انتفى وجود الآخر، فإذا انتفى وجود أحدهما وجد الآخر.  

    الآن عندنا سؤال: هل الأصل وجود الله أم عدم وجوده؟ إذا قلنا عدم فكيف جاء الوجود من عدم مستحيل عقلاً، وللإجابة عن هذه التساؤلات لابد من أن نسلك مسلك افتراض أن أحدهما هو الأصل، ثم ننظر ماذا ينتج من كل فرضية؟  

    فلنفترض جدلاً أن الأصل كل ما يخطر في الفكر وجوده هو العدم، ومعنى العدم نفي كل ذات يخطر في بالك ونفي صفاته فلا ذات ولا قوة ولا إرادة ولا علم ولا حياة ولا أي شيء هذا معنى عدم، وبحسب هذا الافتراض نتساءل؟ كيف استطاع العدم وهو الأصل أن يتحول إلى وجود؟ هذا مستحيل عقلاً، بيت فارغ ليس فيه شيء، تأتيه الساعة الثانية ظهراً فإذا فيه مائدة عليها ما لذ وطاب، البيت فيه عدم والعدم لا يمكن أن يتحول إلى وجود ألسنا نشعر بوجود أنفسنا؟ ديكارت قال:" أنا أفكر فأنا موجود " يعني إذا واحد شك في الوجود لن يستطيع أن يشك في وجود نفسه، أنا موجود، ألسنا نشعر بوجود أنفسنا؟ ألسنا نرى بأم أعيننا موجودات كثيرة من حولنا؟ والعدم كما عرفناه النفي العام لكل ما يخطر ببالك إذن هنا شيء موجود، أنت موجود، والجبال موجودة، وبيتك، وزوجتك، وأولادك، وحانوتك، والطريق، والبحر، والجبل، والبادية هذه أشياء تحس بوجودها إحساساً هي موجودة فكيف يأتي منها العدم العام؟ نحن فرضنا أنه في الأصل هناك عدم عام فكيف يأتي هذا العدم العام؟  العام ذوات وصفات وقوى تنطلق بنفسها من العدم إلى الوجود وانطلاقها لا يكون إلا بقوة، تحدثنا عن الشمس، وأن هذه الشمس مضى على اتقادها خمسة آلاف مليون عام ولن تنطفئ قبل خمسة آلاف مليون عام طيب نحن على مستوى التجربة اليومية الموقد عندنا في البيت إذا فرغت منه الطاقة ينطفئ منذ خمسة آلاف مليون عام، والشمس متقدة تصل حرارتها إلى 20 مليون درجة في المركز ينطلق من سطحها ألسنة لهب يزيد طولها عن نصف مليون كم 20 ألف مليار طن من الفحم الحجري لو أحرقتها لعادلت ما تنتجه الشمس من طاقة في الثانية الواحدة شيء موجود، لو انطفأت الشمس فجأة لانخفضت الحرارة في الأرض إلى ثلاث مئة وخمسين درجة تحت الصفر، انعدام الحرارة والنور والدفء كافيان للقضاء على كل أنواع الحياة هذا شيء موجود، فهذا الوجود لا يعقل أن يكون من عدم هذا شيء مستحيل عقلاً، وهذه الأرض تزن لا أدري كم من آلاف ملايين الأطنان تنطلق بسرعة قدرها 30 كم في الثانية، تحريك الأرض يحتاج إلى طاقة كتحريك السيارة يحتاج إلى طاقة، وكلما زاد وزن السيارة استهلكت وقوداً أكثر، والشمس تنطلق بسرعة 250 كم / ثا مع المجموعة الشمسية حول مركز المجرة، مجرتنا تنطلق بسرعة 240ألف كم / ثا أي تقترب سرعتها من سرعة الضوء، ما هذا؟ عندنا ذوات، وعندنا صفات، وعندنا قوى، وأشياء موجودة، إنه من المستحيل بداهة أن يتحول العدم بنفسه إلى وجود، والوجود لن يكون من عدم، هذه من بديهيات العقل كأن تقول الكل أكبر من الجزء، هذه العقائد أصلها في القرآن، قال تعالى:  

﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾

    يوجد آيات في جسم الإنسان فقط لو تأمل الإنسان بها لذاب من الله خجلاً فالعظم وخلاياه ونموه، وهذا الطفل الصغير عظم فخذه قصير وساقه أيضاً وينمو فإلى أي حد ينمو؟ وما الذي يأمره أن يقف؟ إن هذه القضية لا حل لها في علم الطب.   

    أمسك عصاً وميلها قليلاً تقع، فلماذا العصا تقع والطفل لا يقع؟ سؤال مهم جداً الجواب: بالأذن الداخلية يوجد ثلاث قنوات كالأقواس وهي نصف دائرية فيها سائل، وفي القسم العلوي من هذه القنوات أشعار فإذا مال الإنسان هكذا فالسائل أفقي فيأتي السائل إلى نقطة أعلى في الطرف الآخر فيلامس هذا السائل الأشعار فتبلغ الدماغ إن التوازن أختل فيعطي أمراً فيعود، ولولا جهاز التوازن في الأذن الداخلية لما أمكن الإنسان أن يركب دراجة، حيث إنه لو مال سنتمتراً واحداً يعيد توازنه إلى الوضع الصحيح، جهاز التوازن من الدماغ، وعندما تلتهب الأذن الداخلية للإنسان يختل جهاز توازنه ويمشي مباعداً بين قدميه حتى يتخذ سطح استناد واسع، فالطبيب يعلم أن هذا معه التهاب في أذنه الداخلية من عرجته قال تعالى:   

﴿أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾

    هذه الآية دليل على أن الشيء الموجود لا يمكن أن يكون من العدم مستحيل، يوجد تدبير مصمم وقدرة مصممة وحكمة وعلم وخبرة وأسماء حسنى، أي: هل انتقلوا من العدم إلى الوجود من غير خالق؟  وهكذا لو كان العدم هو الأصل العام لم يوجد شيء، ونحن بهذا نفينا أن يكون الأصل هو العدم .     

    ولذلك كان علينا أن نفهم حتماً أن الأصل هو الوجود، والأصل أن هناك شيئاً موجوداً وبهذا الدليل ثبت بشكل عقلي قاطع أنه لا يصح أن يكون العدم هو الأصل وحيث كان الأمر كذلك فقد ثبت بشكل عقلي قاطع أيضاً أن الأصل هو الوجود لأن الوجود كما سبق نقيض العدم ولا شيء بينهما، وهذا دليل قاطع مقنع أي قطعي الثبوت، ثم نقول: ما كان هو الأصل بين شيئين متناقضين لا يحتاج وجوده إلى تفسير أو تعليل من أين أتى؟ ومن خلقه؟ شيء من الممكن الوجود أما واجب الوجود فلا يقال من أين جاء لأنه هو الأصل وهو الأول، فكلمة من خلقه، ومن أين جاء؟ وماذا كان قبله؟ هذا الكلام لا يصح بحق واجب الوجود لكنه يصح بحق ممكن الوجود، الذي كان من الممكن ألا يكون أو كان، هذا يقال له من أين جاء، وبهذا الاستدلال ظهر لدينا بوضوح شيئان:   

1. أن الأصل الوجود.  

2. وأن الأصل لا يتطلب في حكم العقل سبباً ولا تعليلاً أكثر من أن يقال إنه هو الأصل.  

     إذا كنت تمشي في الطريق واستمعت إلى بوق سيارة وانحرفت نحو اليمين هل تصدق أن هناك جهازاً في الدماغ بالغ التعقيد حسب تفاضل وصول صوت البوق إلى الأذنين، فإذا كان التفاضل واحداً على 1650 جزءاً من الثانية عرف هذا الجهاز أين جهة السيارة فأعطى أمراً للعضلات أن تنطلق في الطريق المعاكس؟ جهاز وما أكثر الأجهزة من ضعفنا ومن محدودية علمنا نظن سذاجة أنه عندنا جهاز الدوران، وجهاز الهضم، وجهاز التصفية، وجهاز البول وجهاز التناسل، مع أن هناك عشرات الأجهزة التي لا نعرفها إلا إذا فقدناها، فالإنسان لديه جهاز اسمه جهاز توازن السوائل مركزه بالكظر، لو اختل هذا الجهاز لأمضى الإنسان يومه كله في شرب الماء وطرحه.  

﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ﴾

     هذا الحيوان المنوي حينما ينطلق باتجاه البويضة كيف يدخل إليها؟ وبعد الفحص الإلكتروني ظهر في رأس هذا الحيوان غشاء رقيق جداً يحبس سائلاً إذا لامس جدار الخلية أذابها ودخل الحيوان، هذا السائل مصدره الزبيب واللفت يقولون عنها: مادة نبيلة جداً، وهذا السائل موجود في العين وفي رأس كل حيوان منوي، فكلما تقدم العلم يصل إلى دقائق لا تصدق أبداً، والحيوانات المنوية تصنع في الخصية على تسع عشرة مرحلة ثم تذهب إلى التخزين وفي التخزين تُحسّن نوعيتها، وأشعر أن الذي أقوله لكم هو في الآيات، وهذه الآيات التي عرفها العلماء منذ عشرين أو ثلاثين عاماً أصبحت من المسلمات البديهيات ولكن العلم اليوم يكتشف دقائق يكاد العقل لا يصدقها، هذه الآية:   

﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ﴾

     إذا دخل رجل إلى السيارة، أليس لها مصنع ومهندسون؟ ألا يوجد مهندس صمم شكلها الخارجي وقوامها وخطوطها؟ ألا يوجد مهندس صمم ألوانها؟ ألا يوجد مهندس صمم فرشها من الداخل؟ ألا يوجد مهندس صمم المحرك؟ تصوّر إن معمل السيارات عبارة عن مدينة بأكملها، كل جناح يوجد فيه مئات من نوابغ المهندسين، وأعقد آلة على وجه الأرض هو الإنسان، هذا الخلق المعقد من عدم، مستحيل.  

﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمْ الْخَالِقُونَ﴾

     أحدث بحث في العين أن اللطخة الصفراء أو النقطة التي ترى فيها العين، هذه اللطخة الصفراء: عبارة عن دائرة ونويّفة في الوسط إذا وقع خيال الشيء المرئي، عندنا عدسة وجسم، ولوحة بشكل مبسط، فلو جئت بعدسة وأتيت بشمعة في غرفة مظلمة ووضعت وراء العدسة لوحة من الورق المقوى وحركتها يميناً ويساراً إلى أن ينطبع على هذه اللوحة شكل الشمعة المشتعلة مقلوبة وصغيرة هذا المكان اسمه " محرق العدسة "، وأحيانا يوجد مكبر مع أحدنا يضعه في أشعة الشمس إلى أن يرى على الورق لطخة حادة الضوء بعد دقائق يحترق الورق هذا المكان اسمه محرق العدسة، الضوء يأتي على شكل حُزم متوازية فإذا دخل الضوء في وسط شفاف انكسر فالتقت هذه الحزم على مكان محدد هذا المكان اسمه المحرق، فمنظر الجبل خطوط من الضوء مستقيمة تدخل إلى العين عن طريق العدسة ينكسر الضوء فيجتمع في نقطة حساسة جداً هي الشبكية وبالذات اللطخة الصفراء، فإذا أردنا توضيح القضية نأتي بعدسة في غرفة مظلمة ونشعل شمعة نضعها أمام العدسة، ونأتي بورق مقوى خلف العدسة ونحرك هذا الورق إلى أن نرى بعيننا رسم شمعة صغيرة مقلوبة على هذا الورق، فلو حركت الورق سنتمتراً واحداً تتلاشى الصورة وتصبح غير دقيقة ولو قربتها سنتمتراً آخر أيضاً تتلاشى هذا المكان الدقيق هو محرق العدسة، الآن لو حركت الشمعة التي أمامها تتلاشى فنحن كيف نرى؟ فالأشياء متحركة واللوحة ثابتة فهذا شيء معجز كيف نرى؟ قيل هذه اللوحة الثابتة فيها دائرة حساسة جداً لها مركز ولها محيط، فإذا جاء خيال الشيء المرئي قبل الشبكية فإن مركز الدائرة يتحسس بوجود خيال لم ينطبق على الشبكية فيعطي أمراً إلى الدماغ والدماغ يأمر الجسم البلوري المرن بالاحديداب قليلاً حتى يأتي الخيال على الشبكية، فإذا جاء الخيال بعد الشبكية فإن المحيط بهذه اللطخة الصفراء يتحسس بهذا الخيال الذي وقع وراء الشبكية، ويعطي أمراً إلى الدماغ بأن يجعل الجسم البلوري ممطوطاً هكذا إلى أن يقع الخيال على الشبكية، وهذه العملية من أعقد عمليات الجسم وقد سماها العلماء "عملية المطابقة ":  

﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ﴾

     دلائل الصنعة تؤكد لنا من المستحيل أن يكون الأصل هو العدم، فلابد أن يكون الأصل هو الوجود، ولابد أن يكون مدبر سميع عليم قادر.  

المرحلة الثانية من الدليل:  

     إذا كان الوجود وهو الأصل لا محالة فهل يمكن أن يكون لهذا الأصل بداية؟ وهل يمكن أن يلحقه العدم؟ 

     الله سبحانه وتعالى لا شيء قبله ولا شيء بعده، إذا كان هناك شيء قبله لصار ممكن الوجود وإذا كان شيء بعده لصار ممكن الوجود، أما هو فواجب الوجود لا شيء قبله ولا شيء بعده، وللإجابة عن هذا التساؤل نقول:   

     ما كان وجوده هو الأصل فلا يصح عقلاً أن يكون لوجوده بداية، لأن ما كان لوجوده بداية فلابد أن يحتاج في وجوده إلى سبب أوجده فأصبح مخلوقاً ولم يعد خالقاً، فلا يحق ولا يصلح بحق الخالق أن تقول ما الذي كان قبله؟ فلو أن شيئاً كان قبله لكان هو الذي أوجده، وإنما كان وجوده هو الأصل فلا يمكن أن يلحقه العدم، لأن كل زمن لاحق يطرأ فيه العدم على أصل وجوده، نحن وجودنا ممكن أين فلان؟ إنه قد مات، أما ربنا عزّ وجل فهو الحي الباقي على الدوام لا شيء قبله ولا شيء بعده ولا يزال وجوده هو الأصل ولا يطرأ عليه العدم أبداً، لأنه لا يطرأ العدم على أي موجود من الموجودات إلا بوصف أن يكون العدم فيه هو الأصل.  

     إذاً: الأصل في الشيء العدم فله بداية وله نهاية وله سبب أوجده وله سبب أنهاه، فهل ينتظر زوال السبب حتى يعود إلى أصله؟ وقد ثبت لدينا أن العدم من حيث هو مستحيل أن يكون هو الأصل، العدم ضد الوجود ولذلك يستحيل عقلاً أن يطرأ العدم على الوجود علمنا أنه هو الأصل، والذات الإلهية لا شيء قبلها ولا شيء بعدها، لا شيء هو سبب في وجودها ولا شيء ينهي وجودها.  

المرحلة الثالثة من الدليل:

     وأحدهم يقول لك: أنت مؤمن بالله تقول له: نعم، ويقول لك: فمن خلق الله؟ فالجواب هو السابق، هذا السؤال يقال لممكن الوجود، الآن فلنلق نظرة على الموجودات التي تقع تحت إدراكنا الحسي في هذا الكون الكبير لنرى هل تنطبق عليها فعلاً الحقيقة الأولى وهي أن الأصل فيها لذاتها الوجود أو ينطبق عليها ضدها وهي أن الأصل فيها العدم، أي هذا الكون بأكمله أصله العدم أم الوجود؟   

     إنه سؤال دقيق فلا تتسرعوا، الكون أصله العدم " كان الله ولم يكن معه شيء "، ألم يقل العلماء إن الشمس مضى على تألقها 5000 مليون سنة إذا كانت موجودة والأرض كانت في عصور مطيرة في قارات ملتصقة مع بعضها هكذا قال علماء الجيولوجيا؟ الأصل في الكون العدم، الكون يسمونه حادثاً أي حدث، ولم يكن من قبل حادثاً، هنا تبدو لنا الحقيقة أننا لم نكن ثم كنا، ونحن صنف ممتاز التكوين:   

﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾

     وأن أشياء كثيرة كانت في طي العدم، المجلس كله بمن فيه أغلب الظن عام 1850 هل كان واحد منا موجوداً؟ من فلان؟ لا يعرف:   

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً﴾

     فمن موت إلى حياة ومن حياة إلى موت ومن تغيرات في الأشكال والصور هكذا الإنسان إنه في تطور مستمر، وكل ذلك لا يعلل في عقولنا وفق قوانين هذا الكون الثابتة إلا بالأسباب المؤثرة، التي تحمل هذه التغيرات الكثيرة المتعاقبة، ومن هذه الأسباب ما نشاهده وما نستنتجه استنتاجاً ولا نزال نتسلسل مع الأسباب حتى نصل إلى مسبب الأسباب. في هذا الكون تغيرات كثيرة يموت شيء، وشيء يولد، ورياح تهب، وأعاصير وبحار تهيج، وبراكين تثور، فلماذا ولد هذا؟ هناك سبب، يوجد تلقيح ويوجد جنين فمن خلق الأب؟ سبب آخر إلى أن تصل إلى مسبب الأسباب هو رب الأرباب، فلو كان الأصل في هذه الموجودات المعروضة على حواسنا هو الوجود فلن تكون هذه الموجودات عرضة للتحول والتغير والزيادة والنقص والبناء والفناء ولم تحتاج صور وجودها إلى أسباب ومؤثرات، فلو كنا نحن في الأصل موجودين لما طرأ علينا تغيير، وبما أنه طرأ علينا تغيير كبرنا، فاختل نظام الهرمونات ضعفنا ثم توفانا الله عزّ وجل، الأصل فينا العدم ونحن مخلوقون، وجودنا يحتاج إلى سبب موجد وهذا مبدأ السببية وحيث كان الأصل في جميع الأشياء الموجودة هو العدم وجب عقلاً أن يكون لها سبب مؤثر نقلها من العدم إلى الوجود في مرحلة وجودها الأول، ولا يزال هذا السبب يؤثر باستمرار في جميع صور تغيراتها المتقنة الحكيمة و قد قال الله تعالى:   

﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا﴾

﴿إنا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً﴾

المرحلة الأخيرة من الدليل:

     علمنا في المراحل السابقة الحقائق الثلاث التالية:  

     1. أن الوجود من حيث هو يجب أن يكون عقلاً هو الأصل.  

     2. وأن ما كان وجوده هو الأصل استحال أن يكون له ابتداء واستحال أن يطرأ عليه العدم.  

     3. وأن هذه الأشياء الكونية المعروضة على حواسنا ومداركنا والتي نحن جزء منها، الأصل فيها العدم ويحتاج وجودها إلى سبب موجد.  

     وهنا نقول بعد أن اجتمعت لدينا هذه الحقائق الثلاث التي لا مفر منها ولا محيد عنها فلا بد لنا من التوفيق بينها بشكل تقبله العقول قبولاً تاماً من غير اعتراض، وذلك لا يكون إلا وفق صورة واحدة لا ثانية لها وهي النتيجة: الأصل الوجود والوجود ليس له أول ولا نهاية، والعدم وجودنا يحتاج إلى موجد وهذا الموجد يجب أن يكون عظيماً.  

الخاتمة:   

     وبهذه الطريقة من الاستدلال يسقط نهائياً تساؤل المتسائلين كيف وجد الله سبحانه وتعالى؟ لأن هذا التساؤل لا يعتمد على منطق ولا على عقل، وذلك أن مثل هذا التساؤل إنما يرد في موجود ثبتت قوانينه وصفاته وأن الأصل فيه هو العدم فهو يحتاج إلى موجد حتى يوجده ويبدعه من العدم، أما الموجود الذي يجب عقلاً أن يكون في الأصل موجوداً فلا يجوز عليه العدم ولا يمكن أن يتعرض وجوده إلى مثل هذا التساؤل في حال من الأحوال، وإيراد التساؤل من هذا النوع يتنافى مع الحقيقة العلمية الثابتة وهي أن الأصل فيه هو الوجود.  



المصدر: العقيدة الإسلامية - الدرس (13-63) : الوصول للإيمان بالله