هذا الصحابي الجليل صديق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى ذلك أنه قريب جداً منه، النبي عليه الصلاة والسلام يقول : “خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا”. هذه الأمة العربية التي اختارها الله لتكون أمة وسطاً، هذه الأمة وهي في جاهليتها تنطوي على مكارم للأخلاق, والعرب في الجاهلية كانوا يكرمون الضيف ، وينصرون المظلوم، ويعينون على نوائب الدهر فلديهم مكارم أخلاقية حقاً والعرب في الجاهلية كانت لهم أشهر حرم، كانت لهم نواقض كثيرة، لكن هناك مكارم أخلاق رغم الجاهلية التي كانوا يعانون منها ففي هذه الأشهر الحرم تتحوّل السيوف إلى أغصان، وتتوقف الحروب، ويتوقف سفك الدماء، هذه ميزة كانت عندهم. كان الصدِّيق عليه رضوان الله في قِمَّة هذه النماذج التي عاشت في الجاهلية، والتي جاءها الإسلام، وهي على نقاء فطري، هذا الصحابي الجليل لم يشرب خمراً, ولم يعبد صنماً, وكان في مخيلته تساؤل كبير عن الحق الذي يعد شفاء للنفوس.
كان مرة في بلاد الشام في عمل تجاري، وقبل أن يغادر الشام إلى بلده مكة رأى رؤيا، رأى قمراً قد غادر مكانه في الأفق الأعلى، ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء، تفرقت في جميع منازل مكة وبيوتها, ثم تضامنت هذه الأجزاء مرة أخرى، وعاد القمر إلى كيانه الأول، واستقر في حجر أبي بكر، صحا هذا الصديق من نومه، وقد رأى هذه الرؤيا، فسار إلى أحد الرهبان المتقين الذين ألفهم، وعقد معهم صلات بالشام، وقص عليه الرؤيا، فتهلل وجه الراهب الصالح، وقال لأبي بكر: لقد أهلَّتْ أيامُه، قال: من تعني؟ قال: النبي الذي يُنتَظَر، ويجيبه الراهب: نعم، وستؤمن معه، وستكون أسعد الناس به . فسيدنا الصديق يحتل مرتبة الصديقية، حينما تقرؤون سيرته ستجدون فيها ما لا يصدق، الحب الذي ينطوي عليه هذا الصحابي الجليل للنبي يكاد لا يصدق، المؤاثرة، التضحية، الولاء، الفهم، الإدراك في أعلى مستوى، وهذه القدرات الفذّة التي يمنحها الله للمؤمنين تقابل صدقهم في طلب الحقيقة .
سيدنا الصديق كان مسافراً، وعاد إلى مكة المكرمة، لكن هذه المرة عاد إلى مكة المكرمة، وفيها أمر عظيم، وفيها خبر يدوي الأرجاء، ما هذا الخبر؟ فلما دخل مكة، وقابل أصدقاءه تقدمهم أبو جهل وتعانقا، وبدأ أبو جهل يقول: أَو حدَّثوك عن صاحبك يا عتيق، سيدنا الصديق كان اسمه في الجاهلية عتيقًا، فأجابه أبو بكر: ماذا تعني؟ فقال أبو جهل: أعني يتيم بني هاشم، قال أبو بكر: تعني محمداً الأمين، ودار حوار سريع بين أبي جهل وبين الصديق، قال: سمعت أنت ما يقول يا عمرو بن هشام؟ قال : نعم سمعته، وسمعه الناس جميعاً، قال: وماذا يقول ؟ قال: يقول إن في السماء إلهاً، أرسله إلينا لنعبده، ونترك ما كان يعبد آباؤنا، ثم إنّ سيدنا الصديق سأل أو قال: إن الله أوحى إليه؟ قال أبو جهل: أجل، قال الصديق: ألم يقل كيف كلمه ربُّه؟ قال أبو جهل: إن جبريل أتاه في غار حراء، وتألق وجه أبي بكر كأنه الشمس، قال في هدوء وسكينة: إن كان قال هذا: فقد صدق. ولهذه الأسباب سمي الصديق، لأن يقينه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام فوق الشك. قصد أبو بكر داره ليرى أهله، وينفض عنه تعب السفر، ثم إنّ سيدنا الصديق أراد أن يتصل بالنبي عليه الصلاة والسلام اتصالاً مباشراً، وهو يعرفه معرفةً جيدة، حينما كان النبي عليه الصلاة والسلام طفلاً صغيراً، وقد دعاه أصدقاؤه للعب كما يلعب الأطفال عادة، كان يقول عليه الصلاة والسلام وهو طفل صغير: أنا لم أُخلَق لهذا ، وهو في سنِّ حياته الأولى كان واعياً للمهمة الكبرى التي تنتظره. سيدنا الصديق لم يبادر متعجلاً، وقال: لقد صدق، إلا لأنه خبير بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، لذلك اعتقدوا أيها الأخوة, وهذا من عقيدة المسلم، إن الأنبياء معصومون قبل الرسالة، ولو لم يكونوا معصومين قبل الرسالة لشَكَّ الناس في دعوتهم، لأنهم صنعوا على عين الله عز وجل، ولأنهم هيؤوا لهذه المهمة العظيمة .
سيدنا الصديق انتقل من بيته بعد أن نفض عنه وعثاء السفر, وتوجه إلى بيت النبي عليه الصلاة والسلام، وجرى حديث بينهما في سرعة الضوء وصفائه، قال أبو بكر: أصحيح ما أنبأني به القوم يا أخا العرب، ولم يكن رسولَ الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ماذا أنبؤوك؟ قالوا: إن الله أرسلك إلينا لنعبده ولا نشرك به شيئا، قال: وما كان جوابك لهم يا عتيق؟ قلت لهم: إن قال هذا: فقد صدق، فاضت عينا رسول الله من الدمع غبطةً وشكراً، لأنه هو يظن أن هذا الإنسان هو أول من يصدقه، وقد تحقق ظنه, لما فاضت عينا النبي بالدموع غبطةً وشكراً عانق صاحبه، وقبل جبينه، ومضى يحدثه كيف جاءه الوحي في غار حراء؟ قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ما كان من هذا الصحابي الجليل بعد أن قبله النبي وبكى إلا أن شد بكلتا يديه على يد صاحبه، وصافح بهما النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أشهد أنك صادق أمين, وأشهد أنه لا إله إلا الله, وأشهد أنك رسول الله، لذلك قال عليه الصلاة والسلام: ما دعوت أحداً إلى الإسلام قط إلا كانت له كبوة إلا أخي أبا بكر .
للصديق مواقف كثيرة تشهد يقينه بصدق محمد عليه الصلاة والسلام ، دققوا في هذه القصة, كان أبو جهل ذاهباً لبعض شأنه حين مر بالكعبة, فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم جالساً وحده في المسجد الحرام، صامتاً مفكراً، وأراد أبو جهل أن يؤذي النبي عليه الصلاة والسلام ببعض سخرياته, فاقترب منه وسأله, أولم يأتك الليلة شيء جديد؟ فرفع النبي عليه الصلاة والسلام رأسه, وأجاب في جد: نَعَم، أُسرِي بي الليلة إلى بيت المقدس في الشام، فقال أبو جهل مستنكراً: وأصبحتَ بين أظهرنا، طبعاً كل عصر له معطياته، العصر الذي عاش فيه النبي بين مكة وبيت المقدس، أعتقد أنّ المسافة كانت شهرًا أو شهرين مِن ركوب الناقة، وهنا صاح أبو جهل في جنون: يا بني كعب هلموا، وأقبلت قريش ينادي بعضها بعضاً، فماذا حل بالنبي؟ ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر أحداً من أصحابه بنبأ الإسراء بعدُ، فتجمع الناس عند الكعبة، ومضى أبو جهل يحدثهم في حبور بما سمع، وقد ظنها الفرصة المواتية التي عندها سينفض الناس عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقدم واحد من المسلمين وسأل النبي: يا رسول الله أحقاً أسري بك الليلة؟ فقال النبي: نعم, وصليت بأخواني الأنبياء هناك، وهذه أفظع أيضاً، وسرى في الجمع المحتشد خليط متنافر من المشاعر المهتاجة، ورحب المشركون بما سمعوا أشد الترحيب، ثم وصل هذا الجمع الغفير إلى دار أبي بكر, وقالوا له: هذا صاحبك، وهذا الذي تقول عنه: الصادق الأمين، والذي تظن به خيراً، تعال واسمع هذا الخبر يا عتيق، وخرج أبو بكر دهشاً تجمله السكينة والوقار, وسألهم: ماذا وراءكم؟ قالوا: صاحبك، قال: ويحكم هل أصابه سوء؟ مِن شدَّة حبه له، وتراجع القوم، وقالوا: لا، إنه هناك عند الكعبة يحدث الناس أن ربه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس، وتقدّم آخر يكمل الحديث ساخراً، ذهب ليلاً وعاد ليلاً وأصبح بين أظهرنا، فأجابهم أبو بكر, وقد تهلل وجهه: أي بأس في هذا؟ إني لأصدقه فيما أبعد من ذلك، أصدقه في خبر السماء يأتيه في غدوة أو روحة، إن كان قال هذا: فقد صدق. وهرول أبو بكر إلى الكعبة حيث الرسول صلى الله عليه وسلم، وعند الكعبة رأى الجمع الشامت المرتاب متحلقين، ورأى نور الله هناك في جلسته الخاشعة مستقبلاً الكعبة لا يحس بهذا اللغط من حوله, ولا يسمع للقوم ركزا، وانطرح أبو بكر عليه يعانقه، ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، والله إنك لصادق, والله إنك لصادق. هو الصديق أدرك إدراكًا عظيمًا، هذا الذي خلق السموات والأرض، وأنزل عليه جبريل من فوق سبع سموات، الذي فعل هذا بإمكانه أن يأخذه إلى بيت المقدس، وأن يعيده في ليلة واحدة, ما هذا اليقين؟ هذا يقين الصدِّيقية .