هذا الصحابي الجليل أؤمن ولا أبالغ أنّه يعد بحق, كما قال المؤرخون: المؤسس الثاني للإسلام، لأنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الذين دخلوا في دينه أفواجاً قد خرجوا منه أفواجاً، فالشيء الذي تصله بسرعة تفقده بسرعة، هؤلاء الذين آمنوا بالتقليد وبالعفوية، آمنوا لأن الناس جميعاً آمنوا، دخلوا في هذا الدين لأن الناس جميعاً دخلوا فيه، هؤلاء سريعاً ما خرجوا من هذا الدين، لذلك ظهرت الردة, بعد وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام تضعضع الصحابة أيضًا، وذلك لأن أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم ما كانت نفوسهم مهيَّأةً لتلقي نبأ وفاة رسول الله عليه الصلاة والسلام، شيء فوق الحسبان، فوق أن يتوهموا هذا الشيء، فضلاً عن أن يعاينوه، أيموت محمد عليه الصلاة والسلام؟ فلذلك هزَّ هذا النبأ أركان عملاق الإسلام، حتى قال: "من يقل إن محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام قد مات لأضربن عنقه، إنه لم يمت، ذهب إلى ربه وسيعود"، كل أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام مادت بهم الأرض وتزلزلت، ولم يكن إلا هذا الصحابي الجليل الذي بقي كالجبل الأشم، على الرغم من شدة حبه للنبي وتعلقه به ووفائه له بقي صامداً كالجبل، قال: من كان يعبد محمداً فإنّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإنّ الله حيّ لا يموت . احتفظ برباطة جأشه في أحلك الساعات، بقي واقفاً على قدميه, وقد تزلزلت من تحت أصحاب رسول الله الأرض.
“مَرِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَدَّ مَرَضُهُ فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، السيدة عائشة ابنته تعرف أن أباها رقيق القلب، كثير البكاء، لا يحتمل أن يقف مكان رسول الله عليه الصلاة والسلام، هذا من شدة الوفاء، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّهُ رَجُلٌ رَقِيقٌ إِذَا قَامَ مَقَامَكَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ، قَالَ : مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ وحين روجع النبي عليه الصلاة والسلام فَقَالَ: مُرِي أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ” إشارة إلى أنه الخليفة. إنه إصرار على أن يصلي مكانه الصديق، وهذه شهادة من النبي عليه الصلاة والسلام لهذا الصحابي الجليل، بأنه أول أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام قدراً، وعلماً، وإيماناً. صلى الصديق مكان رسول الله عليه الصلاة والسلام وامتثل الأمر, وهو لا يدري أو لعله كان يدري أنه في تلك اللحظة كان يتسلم الراية من رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملها من بعده، الولاية عبء, أي مغرم وليست مغنم، خطب بالصحابة الكرام وقال: "يا معشر الأنصار، إنكم لا تذكرون فضلاً إلا وأنتم له أهل“، وقال: ”إني أرشح للخلافة أحد اثنين: عمر بن الخطاب الرجل الذي أعز الله الإسلام به، وأبا عبيدة بن الجراح الذي وصفه النبي الأمين أنه أمين هذه الأمة، واقترب منهما أبو بكر وتوسطهما, ورفع ذراعيهما بكلتا يديه, وقال للناس: لقد رضيت أحد هذين الرجلين عمر وأبي عبيدة، وارتعدت يد عمر كأنما سقطت عليها جمرة ملتهبة، وغطى أبو عبيدة عينيه الباكيتين في حياء شديد، وصاح عمر: لا بل أنت". قال سيدنا عمر: "والله لئن أقدّم فيضرب عنقي في غير إثم، أحبّ إلي من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر". كان يُرى ضعيفاً مستضعفاً، فإذا جد الجد فهو الليث عادياً، رقيق، نحيل، يحب الظل، لا يحب الظهور، لا يحب الاستعراض ولا التبجح، ولا عرض العضلات، أي أن اتصاله بالله ومحبته لله عز وجل, وشعوره أن الله يحبه هذا يغنيه عن استجداء مديح الناس، وعن أن يزهو أمامهم، يعني رجل أواب، قرة عينه في الصلاة، في الإنابة إلى الله، في خدمة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فجأة وجد نفسه في معمعة الأحداث، وهو المسؤول الأول.
خلافته كانت كلها مشكلات رضي الله عنه، والمشكلة الأكبر هي في الذين دخلوا في دين الله أفواجاً, دخلوا بسرعة وبعفوية، بل دخلوا في هذا الدين تقليداً، إذاً: هؤلاء حينما توفي النبي عليه الصلاة والسلام طمعوا في أن يتخففوا من أعباء الإسلام، لا صلاة, ولا زكاة, ولا صيام، وطمعوا أن يبتدعوا لأنفسهم نبوات، فالقضية سهلة في نظر بعضهم، فعادوا إلى عصبياتهم، معظم الذين دخلوا هذا الدين الجديد قد خرجوا منه و ارتدوا، و هناك من يظن أنهم بقوا في بلادهم يتأهبون للقتال، وهناك من أتاه بمعلومات أنهم يستعدون للهجوم على المدينة, وها هم أعلنوا عداءهم بأن بدؤوا بمنع الزكاة، فسيدنا الصديق لا تلين له قناة ، قال: "و الله لو منعوني عقال بعير كانوا يعطونه لرسول الله صلى الله عليه و سلم لقاتلتهم عليه بالسيف، لا يفرق بين الصلاة و الزكاة أبداً"، أي وقف موقفاً تهد له الجبال .
النبي عليه الصلاة والسلام قبيل وفاته أمر أن يجيش جيش لحرب الروم، وأمر أن يكون على رأسه شاب يسمى أسامة بن زيد لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً، لكن بعد أن توفي رسول الله عليه الصلاة والسلام، فالصحابة رأوا أنه ليس من العقل أن ينطلق هذا الجيش لحرب الروم، بينما الجزيرة قد ارتد المسلمون فيها، فهل من المعقول أن يُوجِّه المسلمون جيشًا إلى أقاصي البلاد، وعندهم فتنة داخلية، والعاصمة مكشوفة، والناس قد ارتدوا، وأرادوا أن يكيدوا للمسلمين؟ فصار هناك آراء متفاوتة. يقول سيدنا عمر "لو أنك جمدت هذا الجيش، لِمَ ترسل هذا الجيش؟ لو ادّخرته لحرب المرتدين"، فلما أصر الصديق على إرسال الجيش، قالوا: إنّ هذا القائد صغير السن, ولا يعقل أن يكون كفئاً لهذه المعركة ، وقال: "يا عمر ثكلتك أمك، أجبار في الجاهلية ، خوّار في الإسلام؟ أتمنعني أن أجيش جيشاً جيشه رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ أتمنعني أن أولي على هذا الجيش أسامة بن زيد، وقد أمّره رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟“ هذا هو الإيمان، نبي هذه الأمة يجيش جيشاً، وأنا لا أرسله، نبي هذه الأمة يعين قائداً وأنا لا أقره، فمَن أنا ؟. قال أبو بكر: ”أنفذوا بعث أسامة، فو الله لو تخطّفتني الذئاب لأنفذته كما أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما كنت لأرد قضاء قضاه رسول الله عليه الصلاة والسلام", قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾. ثم إنّ سيدنا أبا بكر مشى في ركاب سيدنا أسامة بن زيد القائد الفتى، لم يحتمل هذا القائد الفتى أن يركب على ناقة، وهو قائد الجيش، وخليفة المسلمين يمشي إلى جانبه، قال: "يا خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام لتركبن أو لأمشين، فقال الصديق و يريد أن يدعمه ، وأن يقوي مركزه: واللهِ لا ركبتُ ولا نزلتَ، وما عليّ أن تغبرّ قدماي ساعة في سبيل الله" .
الحقيقة أن زعماء الأمم، القادة التاريخيون الذين تناط بهم مصائر الأمم، هؤلاء يحملون صفات فذة في شخصياتهم، أولى هذه الصفات: أن يكونوا رجال مبادئ، بالمبادئ لا توجد مساومات على مستوى المبادئ المساومة غير مقبولة، فكان الصديق في هذا المستوى الرفيع .