هذا الصحابي الجليل الذي صار خليفة المسلمين ألقى خطبة يسميها بعض المؤرخين "خطبة الخلافة “, فلو دققنا في كلمات هذه الخطبة لوجدنا أنه قرر فيها مبادئ تبهر العقل، وتأخذ بالألباب، فأول كلمة قالها: ”أيها الناس، فإني وليت عليكم و لست بخيركم... " انطلق مِن أنه واحد من المسلمين، ليس فوق المسلمين بل هو واحد منهم، انطلق من أن الخلافة ليست تشريفاً ولكنها تكليفاً، ليس الخليفة أفضل من أي مسلم, ولكنه أثقل المسلمين حملاً، من هنا انطلق. " أيها الناس، فإني وليت عليكم و لست بخيركم إن أحسنت فأعينوني، و إن أسأت فقوموني... " ثم تناول رضي الله عنه القيم الثابتة ليؤكد أنها المبادئ التي يتبناها، فقال:" ألا إن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له " بمجتمع الغاب الذي ينتصر هو القوي، بمجتمع الحق الذي ينتصر هو صاحب الحق، بين أن هذا المجتمع تسوده قيم ثابتة، تسوده نظم جاء بها عليه الصلاة والسلام، هذه الخطوط التي يتمايز بها الناس في المجتمعات غير المؤمنة، حظ المال، وحظ العلم العصري، وحظ القوة، والمنصب، والجاه، والوسامة والذكاء، هذه لا شأن لها إطلاقاً في مجتمع المسلمين، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وانتهى الأمر. الناس يسمون هذا الخطاب في زماننا هذا خطابَ العرش، يعني الملك يلقي خطاب العرش يبيِّن فيه مبادئ التعامل مع الرعية. قال الصدِّيقُ: " أيّها الناس, إني وليت عليكم ولست بخيركم, إن أسأت فقوموني، ألا أن الضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له ألا وإن القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله, فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله " .
فهذا الصحابي الجليل قال: " والله ما كنت حريصاً على الإمارة يوماً, ولا ليلة، ولا سألتها الله لا في سر، ولا في علانية " والنبي عليه الصلاة والسلام, يقول :" طالب الولاية لا يولَّى " . في بعض البلاد الديمقراطية يدفع المرشح أحياناً مئة مليون دولار حتى يرشح، ذات يوم دخل عليه عمر ليزوره، فوجده يبكي، وما كاد عمر يبصر أمامه, الصديق يبكي حتى تشبث به, وكأنه زورق نجاة، قال له: " يا عمر, لا حاجة لي في إمارتكم، لقد عُلِّقتْ بي تعليقاً، وأُرغِمتُ عليها " لكن عمر رضي الله عنه, قال: إلى أين المفر؟ والله لا نقيلك، ولا نستقيلك، أنت أرحمنا، وأنت أعلمنا, و أنت أقربنا، وأنت أفضلنا، والله لا نقيلك ولا نستقيلك ". فسيدنا الصديق اطمأنت نفسه لمعرفة الله، والإقبال عليه، فهذه الخلافة لا تقدم ولا تؤخر. " ذات مرة طلب رجل حاجة من سيدنا الصديق، فأراد الصديق أن يأخذ رأي عمر وكان قاضياً، قال للرجل: اذهب إلى عمر، سيدنا عمر رفض الموضوع كلياً, و بت فيه بشكل نهائي، فوقع هذا الشخص في حيرة، وعندما جاء الصديق, قال له: أأنت الخليفة أم هو ؟ قال: هو إذا شاء، لا فرق بيننا.
تروي كتب السيرة أن السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والعباس عم رسول الله عليه الصلاة والسلام ذهبا إليه، إلى سيدنا الصديق، يسألانه حقهما في قطعة أرض صغيرة، كان النبي صلى الله عليه و سلم قد أصابها في بعض الفيء, وكان عليه الصلاة و السلام يعطي السيدة فاطمة, و بعض أهله جزءاً من نتاجها ثم يقسم الباقي بين فقراء الصحابة ، فقال لها وللعباس: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ: " إِنَّا مَعْشَرَ الأَنْبِيَاءِ لا نُورَثُ مَا تَرَكْتُ بَعْدَ مَؤونَةِ عَامِلِي وَنَفَقَةِ نِسَائِي صَدَقَةٌ " . وإني والله لا أدع أمراً رأيت رسول الله عليه الصلاة والسلام يصنعه إلا صنعته، فإني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ, فالولاء للحق أم للأشخاص؟ إن كان للأشخاص فهذه ابنة رسول الله عليه الصلاة والسلام أحب الناس إليه على الإطلاق، تريد أخذَ بعض ريعها، أما إذا كان الولاء للحق، فالحق الذي جاء به النبي يؤكد أن النبي لا يورث، فقدْ ظن لعلها لم تسمع كلام أبيها، فجاءت تطلب حقها، قالت: إنك تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهبها لي في حياته، فهي لي بحق الهبة لا بحق الإرث, فقال أبو بكر: أجل أعلم، لكني رأيته يقسمها بين الفقراء والمساكين وابن السبيل بعد أن يعطيكم منها ما يكفيكم، فقد أراد أن يكون فيها حق دائم للفقراء، فهي وقف، ثم جاءت بحجة ثالثة، قالت فاطمة رضي الله عنها: دعها في أيدينا, ونحن نجري فيها على ما كانت تجري عليه وهي في يد رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال أبو بكر: لست أرى ذلك فأنا أمير المؤمنين من بعد رسولهم, وأنا أحق بذلك منكما أضعها في الموقع الذي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يضعها فيه. هذه القصة مفادها أن الولاء لله وحده، وأن الولاء للحق الذي جاء به النبي، وأن الولاء لهذه الشريعة السمحاء، وأن النبي صلى الله عليه وسلم مشرع، فإذا قال: كذا وكذا فكلامه شرع، ومع أن الصديق عليه رضوان الله كان في أعلى درجات الحب لرسول الله عليه الصلاة والسلام لكن يبقى الولاء لله عز وجل .
له موقف لا يصدق، لشدة ولائه للحق، سيدنا الصديق كان خليفة المسلمين ، وأرسل سيدنا أسامة بن زيد قائداً لا تزيد سنه عن سبعة عشر عاماً، وهذا الجيش الذي يقوده أسامة بن زيد فيه جنود كسيدنا عمر، وسيدنا عثمان، وسيدنا علي، هؤلاء كبار الصحابة، العمالقة، القمم، خرج الصديق يودع أسامة بن زيد، وكان بين جنود هذا الجيش عمر بن الخطاب، وكان أبو بكر حريصًا على أن يبقى عمر بجواره، ولقد كان يستطيع كخليفة للمسلمين أن يستبقيه بقرار ينفرد بإصداره، ولكنه يعلم أن في هذا التصرف افتئاتاً على موظف مسؤول يجب أن توفر له الضمانات التي تمكنه من أداء واجبه، و أولى هذه الضمانات: ألا تنتقص هيبته و سلطته، فماذا فعل؟ اقترب الخليفة العظيم سيدنا الصديق من قائد الجيش أسامة, و قال له في همس و رجاء: إذا رأيت أن تترك لي عمر بن الخطاب فإني أجد في بقائه معي خيراً و نفعاً ، هذا درس بليغ، يقول كتاب السيرة: إن أبا بكر لم يفعل ذلك مجاملة و لا تواضعاً، إنما فعله واجباً.
سيدنا الصديق تسلم منصب الخلافة, و في أول يوم من خلافته يضع على كتفيه لفافة كبيرة من الثياب ليبيعها في السوق، ما هذا؟ رآه عمر رضي الله عنه و أبو عبيدة فوقفا يسألانه: إلى أين يا خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: إلى السوق، قال: لماذا و قد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟ قال عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال ، تعويض تفرغ، صحبهما الخليفة إلى المسجد حيث نودي أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وعرض عليهم عمر رأيه في أن يفرض للخليفة بدل تفرغ، أنت خليفة ومكلف برعاية شؤون المسلمين, فهل من المعقول أن تبيع أقمشة بالطريق من أجل أن تأكل أنت و أولادك؟ صدقوني ليس هذا تمثيل وإنما هذه حقيقة .
كان لهذا الصحابي الجليل, غلام جاءه بطعام فأكل منه، ولما فرغ من أكله, قال له الغلام: أتدري ما هذا يا خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال أبو بكر: ما هذا؟ قال: إني كنت قد تكهنت لرجل في الجاهلية، وما أحسن الكهانة إلا أني خدعته! وقد لقيني اليوم فأعطاني مالاً، فهذا الذي أكلت منه من هذا المال، قال: فأدخل الصديق يده في فمه حتى قاء كل شيء في جوفه، قيل لأبي بكر رضي الله عنه: يرحمك الله أكل هذا من أجل لقمة واحدة؟ فقال: و اللهِ لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجته ا . هنا مسألة مهمة جداً, هل هذا حكم شرعي أم موقف شخصي؟ هذا موقف شخصي، أي إذا أكل الإنسان طعاماً، ثم عرف بعد ذلك أن الطعام فيه شبهة، فهل هو مكلف أن يغسل معدته؟ هذا ورع من سيدنا الصديق، وموقف شخصي، وليس حكماً شرعياً .
سيدنا عمر, كان يقول دائماً: يرحم الله أبا بكر، لقد أتعب الذين جاؤوا بعده، أتعبهم كثيراً، بعد أن جاءه الفيء من الفتوح, ردّ كل المال الذي أخذه إلى بيت مال المسلمين, وقال لها: انظري ما زاد في مال أبي بكر منذ أن ولي هذا الأمر فرديه على المسلمين ، أوصى ابنته، أي شيء أخذته من بيت المال رديه عليه بعد أن أغناني الله تعالى من الفيء والغنائم .
هذه نماذج من مواقف هذا الصحابي الجليل الذي كان قمة في الورع، وبعد الفهم و الشجاعة، وفي حسن سياسة الأمور، فقد كان بحق, كما يقولون: المجدد الثاني للدولة الإسلامية بعد أن خرج الناس من دين الله أفواجاً عقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعد أنْ دخلوه أفواجاً .