بحث

السيدة زينب الكبرى1

السيدة زينب الكبرى1

بسم الله الرحمن الرحيم

      أيها الإخوة المؤمنون ، مع سير الصحابيات الجليلات رضوان الله تعالى عليهن أجمعين ، ومع بنات النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ابنته البكر السيدة زينب الكبرى ، كما توصف في كتب السيرة .  

المرأة في الإسلام:  

      أيها الإخوة الكرام ، فإذا خص الله عز وجل مؤمنًا بالبنات فقط فلا ينبغي أن يتألم ، لأن البنت ريحانة ، وكما كان يفعل النبي عليه الصلاة والسلام حينما جاءته فاطمة ضمها وشمها وقال :  ريحانة أشمها وعلى الله رزقها  

      وأي بيت من بيوتكم إذا كان فيه بنت فلربما كانت سبباً لدخول أبيها الجنة .  

      قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِنَّ وَأَطْعَمَهُنَّ وَسَقَاهُنَّ وَكَسَاهُنَّ مِنْ جِدَتِهِ كُنَّ لَهُ حِجَابًا مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  

      إنه كلام النبي ، لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، بنت واحدة إذا أحسنت تربيتها عرفتها بربها ، عرفتها دينها ، ربيتها على الخلق ، والعفاف ، والحشمة ، والتستر ، بينت لها أحكام الشرع ، فأنت في الطريق إلى الجنة .  

      كان عليه الصلاة والسلام أبا البنات ، قد يقول قائل : ما الحكمة في أن الله عز وجل لم يرزقه ذكوراً كبروا ، وأعانوه على الدعوة .  

      النبي عليه الصلاة والسلام أراده الله أن يعتمد عليه وحده ، لأن الأب أحياناً يعتمد على ابنه ، ولكن النبي ليس هناك أب وأم يدلان عليه بفضليهما ، نشأ يتيماً ، وليس له ابن ذكر يعينه على متاعب الحياة . ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى)  

      فلم يعيش للنبي صلى الله عليه وسلم من أولاده ولا ذكر واحد ، بل جميعهم ماتوا صغاراً .  

      بالمناسبة إخواننا الكرام ، الذي يعاني أن أولاده جميعاً إناث فله في النبي أسوة حسنة ، الذي يعاني من أب صعب فله في سيدنا إبراهيم أسوة حسنة ، الذي يعاني من ابن سيئ فله في سيدنا نوح أسوة حسنة ، والمرأة التي تعاني من زوج لها في السيدة آسية أسوة حسنة ، والزوج الذي يعاني من زوجته له في سيدنا لوط أسوة حسنة ، فهناك أب سيئ ، وزوجة سيئة ، وزوج سيئ ، ونبي لم ينجب ، ونبي ملك ، وقد تكلم الناس في السيدة عائشة ، في سمعتها ، وهي برئية ، ونقية ، ومع ذلك صبرت ، وتحملت ، فالله عز وجل جعل في الأنبياء والمرسلين نماذج ، فأي نموذجاً تعاني منه لك في بعض الأنبياء والمرسلين أسوة حسنة ، هذه الأسوة تملأ قلبك رضى عن الله عز وجل .  

      يقول بعض كاتبات السيرة : لكأن الله جل جلاله أراد أن يعتمد الرجل الذي يصطفيه نبياً على احتمال أبوة الإناث ، أبو البنات عليه عبء ثقيل ، وكان صلى الله عليه وسلم في أبوته لبنات أربع قدوة صالحة للمؤمنين ورسالته التي أعزت الأنوثة ، وقررت لها من الحقوق ما لا تطمح إلى مثله نساء العصر الحديث .  

      أنا سمعت من أخ صادق يعمل في مركز في أمريكا أن أربع أستاذات جامعيات انتدبن ، وزرن الشرق الأوسط ، زرن سوريا ، ومصر ، والمملكة العربية السعودية ، فيما أذكر ليدرسن حالة المرأة المسلمة التي يتوهمون أنها مضطهدة ، ويتوهمون أنها لم تنل حقوقها ، فطفن في هذه البلاد طولاً ، وعرضاً ، وشمالاً ، وجنوباً ، ثم فوجئن أنه ما من امرأة في العالم مكرمة كما هي المرأة المسلمة ، الشيء الذي لا يُصدق أن هؤلاء النسوة الأربع ، الأستاذات في الجامعة اللواتي أتين ليتفحصن حال المرأة المسلمة أسلمن جميعاً ، وعدن إلى بلدهن مسلمات .  

      المرأة الآن في أمريكا إن لم تعمل ثمان ساعات ، وساعتين قيادة سيارة عمل ربما تموت من الجوع .  

أما أية امرأة من نساء المؤمنين سيدة منزل ، تعيش في بحبوحة ، وفي راحة ، وفي تكريم ، وكأنها ملكة في مملكة صغيرة .  

لمحة عن حياتها:  

      البنت الأولى السيدة زينب الكبرى ، هي زينب بنت محمد صلى الله عليه وسلم ، زوجها أبوها قبل الإسلام بست سنين ، طبعاً تزوجها ابن خالتها أبو العاصي ، فولدت له أمامة التي تزوجها علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ، وولدت له علي بن أبي العاصي ، ومات صبياً .  

      طبعاً بعد حين شارك المشركين في بعض الغزوات ، وقع أسيراً ، فلما استعرض النبي الأسرى وقعت عينه على صهره ، فقال : والله ما ذممناه صهراً ، الإنصاف ..  

      والآن جاء ليقاتل ، وهو مشرك ، طبعاً الزواج تم قبل البعثة ، ابن خالتها كفء لها ، أما بعد البعثة فتلكأ في إسلامه ، وأبى أن يسلم ، فطلقها النبي منه ، وكانت بعض الغزوات فشارك في هذه الغزوة ، ووقع أسيراً ، استعرض النبي الأسرى فرآه أمامه ،  

       قال : والله ما ذممناه صهراً .  

      وعن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أبو العاصي بن الربيع أن خذي أماناً من أبيك ، فخرجت فأطلت رأسها من باب حجرتها ، والنبي في المسجد يصلي الصبح بالناس ،   

       فقالت : أيها الناس ، إني زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإني قد أجرت أبا العاصي ،   

       فلما فرغ النبي صلى الله عليه من الصلاة قال : يا أيها الناس إنه لا علم لي بهذا حتى سمعتموه ألا وإنه يجير على المسلمين أدناهم.  

      وأجاروا أبا العاصي زوجها ، وأعطوه بضاعته ، وسوف ترون بعد قليل هذا الموقف الرائع الذي وقفه أبو العاصي حينما كان بيده أموال أهل مكة ، لو أسلم لصارت كل هذه الأموال غنيمة للمسلمين ، ولكنه أبى أن يبدأ إسلامه باغتصاب أموال الناس ، ولهذه القصة تفاصيل تأتي بعدها.  

      أيها الإخوة ، حينما أجاب النبي عليه الصلاة والسلام ابنته إلى طلبها سألت أباها أيضاً أن يرد عليه متاعه (بضاعته) ، وأمرها ألاّ يقربها ما دام مشركاً ، لأنه طلقها منه ، طبعاً طلقها منه ، وأرسلها إلى أبيها في المدينة ، وكان في تجارة إلى الشام ، عاد من الشام إلى مكة ، ومعه تجارة عريضة ، فألقت سرية من سرايا النبي القبض عليه ، وساقته مع البضائع إلى المدينة ، فأجارته زينب ، وهي مطلقته ، وقَبِلَ النبي طلبها ،   

       وقال : يا بنيتي لا يصل إليك ، لأنه لا يحل لك  

      عاد أبو العاصي إلى مكة ، وأدى إلى كل ذي حق حقه ، ثم رجع مسلماً مهاجراً ، فرد عليه النبي زوجته بذاك النكاح الأول .  

      طبعاً القصة لها تفاصيل نأخذها بعد قليل .  

      عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ :   

       دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَتْ ابْنَتُهُ فَقَالَ اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ وَاجْعَلْنَ فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ فَإِذَا فَرَغْتُنَّ فَآذِنَّنِي فَلَمَّا فَرَغْنَا آذَنَّاهُ فَأَعْطَانَا حِقْوَهُ فَقَالَ أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ تَعْنِي إِزَارَهُ.  

      أعطاها قماشًا ، وقال : اجعلوا هذا القماش عليها .   

مكانتها عند والدها صلى الله عليه وسلم:  

      قال كتاب السيرة : لها مكانة كبيرة عند أبيها ، زينب الكبرى ، وكلكم يعلم أن البنت تُعد أقرب من إخوتها الذكور إلى أبيها .  

      يقول كتاب السيرة : لقد كان لزينب في نفس أبيها محمد صلى الله عليه وسلم أثر كبير ، فكان يحبها كثيراً ، لكونها ولده البكر التي أطلت على زوجين حبيبين كريمين ، فأضفت عليهما معالم الأبوة والأمومة .  

      أحياناً ـ ولله حكمة بالغة ـ أن الولد يمتن العلاقة بين الزوجين ، ويملأ فراغ الزوجين ، ويملأ سكون البيت .  

      رأتها خديجة ثمرةً يانعة من شجرة مباركة طيبة ، إنها ابنة محمد صلى الله عليه وسلم الزوج العظيم ، الذي لم تعلم الدنيا مثيلاً له خُلقاً وأدباً ، فرعتها أحسن رعاية .  

      أنا أقول لكم ـ أيها الإخوة ـ مُتاح لكم تصلوا إلى أعلى درجات الجنة من خلال البيت فقط ، اعتنِ بأولادك ، اعتنِ بهم ، متن علاقتك بأهل البيت ، ربِّهم تربية صالحة ، اجعل هذه الأسرة بوتقة ، كل أفراد الأسرة ينصهرون بها .  

      أنا بصراحة أكبر كل أسرة متماسكة ، وأتألم أشد الألم من أسرة متفككة من أسرة متقاطعة ، متدابرة ، متنافسة ، وإنّ أحد أكبر أسباب سعادة الإنسان أسرته المتماسكة ، فشبت زينب على كريم الخلق .  

زواجها:  

      حتى إذا شبت على كريم الخلق ، وبلغت مبلغ الفتيات الطاهرات النقيات ، كان لها في حساب هذه الأم العظيمة ، الكريمة ، ما تراه لابنتها الشابة .  

      هل هناك أب أو أم لا يطمحان أن يزوجا أولادهما ذكوراً وإناثاً من أزواج طاهرين ، ومن زوجات طاهرات .  

      لذلك من مشى في تزويج رجل بامرأة كان له ـ كما ورد في الأثر ـ كان له في كل كلمة قالها ، وفي كل خطوة خطاها عبادة سنة ، قام ليلها ، وصام نهارها .  

      مضى زمن يسير على بلوغ زينب مبلغ النساء ، وقد ورد في الأثر أن ثلاثة لا ينبغي أن تتأخر ، الأيم إذا جاء من يخطبها ، والصلاة إذا حضر وقتها ، والميت إذا مات .  

      الميت لا يؤخر ، والبنت التي تُخطب ينبغي ألاّ تُؤخر ، والصلاة إذا دخل وقتها.  

      طبعاً قصة كل فتاة بلغت مبلغ النساء ، ولها قريب يعرف أخلاق هذه الفتاة ، وأدبها ، وعلمها ، فتقدم أبو العاصي ابن خالتها لخطبتها .  

      طبعاً النبي عليه الصلاة والسلام وافق على هذا الصهر ،   

       قال : إنه نعم الصهر الكفء ،   

      مع أن النبي عليه الصلاة والسلام أعجب به ، ووافق عليه ، إلا أن النبي قرر أن للفتاة الحق أن تختار زوجها ، فاستأذنها ، فقال : أي بنيتي زينب ، إن ابن خالتك أبا العاصي ابن الربيع جاء لخطبتك ، فما كان منها إلا أن سكتت إعلاناً منها على القبول .  

      النبي سيد الخلق حينما خُطبت ابنته استأذنها ، فلذلك أيّ أب يجبر ابنته على الزواج ، وهي كارهة ، أو غاضبة ، فهذا الزواج لا يقع ، لأن موافقة الفتاة أحد شروط الزواج ، لذلك كلكم يرى في عقود القران ، يقف كاتب المحكمة ، ويذهب إلى الغرفة الثانية ليسمع بأذنه موافقة الفتاة على تزويجها من الشاب الخاطب .  

      تمت الخطبة ، وأذيع الخبر في مكة ، فما كان من أهلها إلا أن باركوا هذه الخطبة بالثناء العاطر ، والمدح الجميل للخاطب والمخطوبة ، ولأهلهما ، وبادر شباب قريش يغبطون أبا العاصي بهذه القرابة الكريمة من محمد صلى الله عليه وسلم ، الذي سيصبح له صهراً صالحاً ، ويكون والد زوجته عماً كريماً .  

      العم أب ، والذي يقول دائماً ، وقد قيل : لك آباء ثلاثة ، أب أنجبك ، وأب زوّجك ، وأب دلَّك على الله ، الأب الذي أنجب أبوك النسبي ، والأب الذي زوجك هو والد زوجتك ، رعاها إلى أن أصبحت بهذا السن ، هذا أب ، فكل شاب يسيء إلى عمه يتنكر لمبادئ الأخلاق .   

      لك أب أنجبك ، وأب زوجك ، وأب دلك على الله ، طبعاً الأب الأول ينتهي فضله بنهاية الحياة ، والأب الثاني ينتهي فضله بنهاية الزواج ، أما الأب الذي دلك على الله دلّك على الجنة ، فما دمت في الجنة ففضله مستمر ، لذلك الإنسان عليه أن يسعى للدعوة إلى الله ، فالخير الذي يأتي من الدعوة إلى الله لا يعلمه إلا الله ، قال تعالى :  ( وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا)  

      ويتم عقد الزواج ، ويستعد أهل الزوج لاستقبال الزوجة الكريمة ويحين موعد الزواج ، وتردد في أرجاء مكة أصداء العرس ، وتُنحر الذبائح ، وتُقام الولائم فرحة وبهجة بهذا الزواج المبارك .  

      ترون أنتم بأعينكم أن الزواج مشروع ، لذلك يعلنه الناس ، ويطلقون أبواق سياراتهم ، أما العلاقة المشبوهة فهذه وصمة عار في حق الإنسان ، هذا يؤكد قوله تعالى :  ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنْ اللَّهِ )

      لي صديق طرق بابه فجراً ، فتح الباب رأى شبه سلة فيها طفل وُلد لتوه ، لا يوجد أحد ، أخذ هذا الطفل إلى دار التوليد، وضع في الحاضنة ذكر لي هذه القصة ، قلت : سبحان الله ، لو كان هذا الطفل من زواج شرعي لفرح الأهل ، ويقيمون الولائم ، وتأتي التهاني ، وتأتي الهدايا ، لأنه جاء من طريق مشروع ، أما الطفل اللقيط فإنه يكون ثمرة لجريمة الزنا .  

لذلك كم يوجد في الحاويات من أطفال ولدوا لتوهم ، هذه الظاهرة تنتشر في بعض البلاد ، لأن الزواج غير شرعي ، ماذا يُفعل بهذا الطفل ؟ يُلقى في الحاوية ، أما الطفل الذي يأتي من أم وأب فيوضع في أجمل مكان بالغرفة ، في سرير ، وفي عناية فائقة ..   

      وفي بيت الزوجية تحل زينب مكرمة معززة ، ويهنأ لها العيش في ظل زواج فاضل كريم.  

طبعاً أبو العاصي فاز بهذه الزوجة الصالحة الكريمة ، وفاز بالسعادة الزوجية التي وجدها في زينب ، فكان كلما آن الأوان للسفر يشتد عليه الفراق ، حتى كان كثيراً ما ينشد في سفره وهو بعيداً عنها .  

ذكرت زينب لما ورقـت أرم      فقلت سقيا لشخص يسكن الحرم  

بنت الأمين جزاها الله صالحة       وكل بعل سيثني بالذي عـلــم  

***  

      لقد منَّ الله على أبي العاصي بولدين ، الأول علي بن أبي العاصي ، والثاني أمامة بنت أبي العاصي ، وهي التي قد تزوجها علي بن أبي طالب بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها .  

علمها أن لأبيها شأن عظيم:    

      لقد كانت تعلم زينب أنه سيكون لأبيها محمد صلى الله عليه وسلم شأن عظيم ، من أين ؟ علمت هذا من أخلاقه ، من صفائه ، من رحمته ، من وفائه ، من كرمه ، لأنها ترى من أبيها من الصفات الحميدة ، والأخلاق الكريمة ، والصفاء النادر، والسمت الحسن الذي يختفي وراءه ينبوع الحكمة المتفجرة على لسانه الصادق ، وقوله الحق ، وعمله الصالح ، وأمانته الفذة، ونهجه المستقيم ، حتى غدا بين رجال قريش ، بل والعرب ، من خلفهم غدا الرجل الأمثل ، والأكمل والأعظم ، فلا تسمع بصفة حميدة إلا وجدتها في أبيها ، ولا بخلق كريم ، أو سجية حسنة إلا وقد عرفتها في أبيها من حين وعت عليه أباً يحنو عليها ، ويرعاها ، هذا الخلق يؤهل أباها ليكون شخصاً عظيماً ، لذلك لم تُفاجأ زينب بخبر الوحي .  

      ذات صباح سعت زينب مبكرة إلى بيت أبيها في أحد الأيام لأن أبا العاصي كان على سفر ، فالتقت عند الباب بأمها عائدة من زيارة عاجلة لابن عمها ورقة بن نوفل ، ولم يسبق لزينب أن رأت أمها على مثل هذه الحالة المضطربة ، واللهفة والاهتمام والاشتغال ، وقد راعها أن قد مرت بها فلم تكد تراها ، بل اندفعت لا تلوي على شيء نحو مخدع زوجها حيث تلبثت هناك فترة غير قصيرة قبل أن تخرج إلى بناتها ، وقد عاودها هدوءها ، وأصغت زينب إلى أمها ، وهي تحدثها حديثاً عجباً عن نزول الوحي على أبيها محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو يتعبد بغار حراء ، فأخذت بما سمعت حتى لم تحر جواباً ، ذلك أن الأمر كان من الخطر والجلال حيث قصر عقلها عن إدراكه ، وأعياها أن تبلغ مداه ، ولبثت زينب في مكانها ساكتة واجمة حتى ردها إلى يقظتها صوت أختها فاطمة.  

       تقول فاطمة : أو ما يسرك يا أختي أنك بنت نبي هذه الأمة ؟   

       أجابت : أجل والله يا فاطمة ، وأي فتاة لا يزيدها ذلك الشرف الذي ما بعده شرف ، لكنه الذي سمعت ، وسمعت من قول خالي ورقة ـ   

      لما التجأت السيدة خديجة إلى ابن عمها ورقة تحدثه بما جرى للنبي من نزول الوحي ،  

       قال لها : ليكذبن ، وليؤذين ، وليخرجن ، وليقاتلن ..  

      فكرت فاطمة ملياً ، وقد عزَّ عليها أن يُؤذى أبوها ، ثم رفعت وجهها ،   

       وقالت لأختها : هو والله كما قالت أمي لأبي : الله يرعانا يا أبا القاسم ، أبشر يا ابن العم ، واثبت فو الله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق .  

      من أين لها هذا العلم ؟ ..   

      الآن ما علاقتنا بهذا النص ؟ الواحد منكم إذا كان صادقاً عفيفاً أميناً يؤدي عباداته كاملة ، وأنا أقول لكم بالقياس المتواضع ، والله لا يخزيك الله أبداً .   

      إذا كنت مع الله صادقاً أميناً عفيفاً .. نعرف أمانته ، وصدقه ، وعفافه ، تتحرى الحلال ، تضبط أعضاءك ، تضبط حواسك ، تضبط بيتك ، إذا كنت شاباً مستقيماً أبشر ، فو الله ما يخزك الله أبداً .. هذا علاقتنا بهذا النص .  

      وابتسمت زينب ، وكذلك فعلت فاطمة ، وإن أحست كلتاهما أن لهذا الأمر ما بعده ،   

زوجها يرفض الإسلام:  

      وعاد زوجها أبو العاصي ، وملأ سمعه شائعات المشركين قد تناقلتها الركبان عن ظهور محمد بن عبد الله بدين جديد .  

      رجع من السفر فسمع بالنبوة والوحي .. فاستقبلته ، وأخبرته بالنبأ اليقين ، ولكنه خيب أملها حين ردد مزاعم المشركين ، وقفت أمامه قبل أن يتم كلامه   

       وقالت : والله ما كنت لأكذب أبي ، وإنه والله لكما عرفت أنت وقومك إنه صادق أمين،   

      أيْ أنّ أبي نبي ، صارت مشكلة بينها وبين زوجها .  

       ثم قالت : والله إني قد آمنت بما جاء وأسلمت ، وكذلك آمنت أمي وأخواتي ، وعلي ابن عم أبي ، وأبو بكر ، وأسلم من قومك ابن عمك عثمان ، وابن خالك الزبير بن العوام بن خويلد ، وكما آمن به وصدقه ابن خالك ورقة بن نوفل ، الذي توفاه الله منذ عهد قريب ، فليس لك إلا أن تؤمن وتسلم ،   

      فلم يجبها بشيء ، ثم خرج من بيتها وتوجه إلى الكعبة.  

      هنا المشكلة .. هي آمنت ، ولكن زوجها لم يؤمن .  

      ولما عاد قال لها : لقيت أباك اليوم في الكعبة ، ودعاني إلى الإسلام ، ثم لم يزد ، وكانت ملامح وجهه من الوجوم ، وترنح صوته ما يغني زينب عن سؤاله : بمَ أجبته ؟ يعني هل أسلمت ؟ لم تسأله ؟ وضعه يبين أنه لم يسلم .  

      وقد قال لها ذات يوم وهي تدعوه إلى الإيمان والإسلام : والله ما أبوك عندي بمتهم ، وليس أحب إلي من أن أسلك معه يا حبيبة في شعب واحد ، ولكنني أكره أن يُقال : إن زوجك خذل قومه ، وكفر بآبائه إرضاءً لامرأته .  

      إنها العصبية .. وتمثل بموقف أبي طالب ، وإن محمداً صلى الله عليه وسلم عنده أحب إليه من والده لم يساوره في صدقه أدنى ريب ، فتندت عيناها بالدموع حزناً عليه ، وإن كانت لترجو اليوم الذي يخلع عن كاهله رجز الجاهلية ، وشركها.        إنّ من سعادة الإنسان أن يكون هو مؤمناً ، وأن تكون زوجته مؤمنة ، ومن سعادة المؤمنة أن تكون هي مؤمنة ، وأن يكون زوجها مؤمناً ، هذه مشكلة ، هي آمنت ، وزوجها ما آمن.  



المصدر: السيرة- سيرة الصحابيات الجليلات ـ بنات النبي الكريم –السيدة زينب الكبرى ـ الدرس (1-2 ) : سيرة السيدة زينب الكبرى