بحث

جوهر الدين

جوهر الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

     تؤخذ كلمة الدين من فعل دانه يدينه، وهناك دان له، وهناك أيضاً دان به، أما دانه يدينه، فلها معنى دقيق أي خضع له، التزمه، طبقه، أما دان له، فبمعنى أنك اتجهت نحوه، أما دان به فاتخذت منهج الدين منهجاً لك. فأنت ينبغي أن تكون متديناً دانه، ودان له، ودان به. 

     من تعريفات الدين أنه مجموعة واجبات لهذا المخلوق نحو الخالق، واجبات الإنسان نحو الله، واجبات الإنسان نحو الجماعة، واجباته نحو أهله، واجباته نحو نفسه، فالإنسان هو المخلوق الأول:  ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾  أنت مأمور من قبل خالق الأكوان أن تعبد الله مخلصاً، العبادة هي الطاعة، عندنا عبادات شعائرية؛ كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وعندنا عبادات تعاملية؛ كالصدق والأمانة، المشكلة الأولى الآن أن بعض الناس يتوهمون أن العبادة هي الشعائرية فقط؛ يصلي، يصوم، يحج، يزكي، وانتهى الأمر، أما كسب ماله فيه شبهات، إنفاق ماله فيه شبهات، سهراته حفلاته فيها شبهات، فأنت ما لم تفهم الدين منهجاً كاملاً، منهجاً شاملاً، منهجاً تفصيلياً، فالفهم للدين غير صحيح. ما العبادة؟ طاعة لله، طاعةٌ طوعية ممزوجةٌ بمحبةٍ قلبية أساسها معرفة يقينية تفضي إلى سعادةٍ أبدية، لذلك قال تعالى:  ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ .   هل يمكن أن تلخص رسالات السماء كلها في آية واحدة؟قال تعالى:  ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾  رسالات الأنبياء جميعاً مجتمعة هي التوحيد؛ لا إله إلا الله، لا معطي إلا الله، لا مانع إلا الله، لا رازق إلا الله، لا رافع إلا الله، لا خافض إلا الله، لا شافي إلا الله، أنت حينما ترى أن كل شأنك متعلق بالله تدع الخلق وتتجه إلى الخالق، الله عز وجل قال:  ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾  الآية لها معان كثيرة لكن من أدق معانيها أن حقيقة الدين الخضوع إلى الله، هل أنت خاضع للعادات والتقاليد؟ هل أنت خاضع لمبادئك أم لمصالحك؟ هل أنت خاضع لمنهج السماء أم لقوانين الأرض؟ الدين خضوع، والآية الثانية:  ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾  بمعنى غير الخضوع لله عز وجل، الإسلام بالمعنى الواسع. 

     الحقيقة الدين منهج تفصيلي لكل حركاتك وسكناتك، في سرك وعلانيتك، في صحتك ومرضك، في غناك وفقرك، في قوتك وضعفك، قبل الزواج وبعد الزواج، مع الغنى ومع الفقر، منهج يدور مع الإنسان حيثما دار. لو أردت أن تعدد البنود التي لا تنتهي ومتعلقة بالدين وجدتها بالآلاف، منهج تفصيلي، ولا يُعدّ بعيداً عن أذهانكم أنك حينما تقتني آلةً غالية الثمن، بالغة النفع، معقدة التركيب، بفطرتك، بحسك الأولي، دون أن تشعر تعتني بنشرة هذه الآلة، لأنها من عند الصانع، والصانع هو الجهة الوحيدة التي ينبغي أن تتبع تعليماتها، لأنها الجهة الخبيرة، قال تعالى:  ﴿وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِير﴾ فأنت - وأقول هذه الكلمة وقد تبدو غريبة- انطلاقاً من أنانيتك، من حبك لذاتك، من حبك لسلامتك، من حبك لكمال وجودك، من حبك لاستمرار وجودك، ينبغي أن تتبع الدين، لأن الدين تعليمات الصانع، والصانع هو الخبير. ما من مشكلة على وجه الأرض في القارات الخمس من آدم إلى يوم القيامة، إلا بسبب خروج عن منهج الله، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، أزمة أهل النار في النار ما هي؟   ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾  لماذا؟ لأن أي إنسان على وجه الأرض حريص حرصاً لا حدود له على حب وجوده، وعلى حبّ سلامة وجوده، وعلى حبّ كمال وجوده، وعلى حبّ استمرار وجوده، هناك على وجه الأرض الآن سبعة مليارات، سبعة مليار إنسان ما منهم واحد إلا وهو حريص على سلامة وجوده، من منا يحب المرض؟ من منا يحب الفقر؟ من منا يحب القهر؟ من منا يحب مشكلة تحيط به؟ نحن جميعاً من دون استثناء حريصون حرصاً لا حدود له على سلامة وجودنا، وعلى كمال وجودنا، وعلى حبّ كمال وجودنا، وعلى حبّ استمرار وجودنا، أليس كذلك؟ تحب وجودك، سلامة وجودك، كمال وجودك، استمرار وجودك، تتحقق جميعاً بطاعتك لله؟  ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾. 

     الحقيقة الإنسان له عقل، وله فطرة، وله أعضاء، جانب علمي، جانب نفسي، جانب مادي، عقله متى يخضع؟ هل تقبلون أن أقول لكم: واحد زائد واحد يساوي خمسة؟ لا أحد منكم جميعاً يقبله، أما واحد زائد واحد يساوي اثنين، فكلكم تخضعون لهذه المقولة، معنى الدين الذي يُخضع له، يخضع العقل له، وتخضع النفس له، ويخضع الجسم له، منهجه من عند الخالق، من عند الخبير، من عند العليم، هذا المنهج، تصوراته، أفكاره، تُقدم لك تفسيراً عميقاً دقيقاً صحيحاً واسعاً للكون، والحياة، والإنسان، الإنسان شاء أم أبى كائن مفكر، معنى كائن مفكر، هو بحاجة إلى ت ص ور ما عن أي موضوع، شئت أم أبيت، فلا يوجد إنسان على وجه الأرض إلا له حيال أي موضوع تصور، فالبطولة أن يأتي هذا التصور صحيحاً، واقعياً، علمياً ، وسطياً، قضية الدين قضية تعد جزءاً من حياتنا، تعد جزءاً من وجودنا، تعد جزءاً من كياننا، فلا بد من أن تكون بموقف صحيح، يمليه عليك دينك،  ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾  عندنا قرآن إلى الله، عندنا سنة صحيحة إلى الرسول، فإذا رجعنا في كل قضية إلى كلام الله، وإلى كلام رسوله، أو إلى ما صحّ من كلام رسوله، وبفهم صحيح وفق علم الأصول، نكون على الصواب إن شاء الله. 



المصدر: الخطبة : 1187 - جوهر الدين - حقيقة التفكر.