بحث

سعة علمه صلى الله عليه وسلم

سعة علمه صلى الله عليه وسلم

بسم الله الرحمن الرحيم

     أيها الإخوة؛ مع شمائل النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، سعة علمه عليه الصلاة والسلام.. فقد كان عليه الصلاة والسلام واسع العلم، عظيم الفهم، أفاض الله تعالى على يده العلوم النافعة الكثيرة، والمعارف العالية الوفيرة، وقد أعلن الله سبحانه وتعالى بسعة علمه فقال الله عزَّ وجل:    ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾    النبي يكفيه فخراً أن الله جلَّ جلاله هو الذي علَّمه..  ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى﴾  والشيء الوحيد الذي طُلِبَ من النبي أن يدعو بالاستزادة منه هو العلم..  ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾  والنبي صلَّى الله عليه وسلَّم قال عن نفسه:  ((إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا)) ما قال هذا مفتخراً ولكن قال هذا مبيِّناً.  فالعلم هو القيمة الوحيدة المرجِّحة، والعلم هو الشيء الوحيد الذي طُلِب من النبي أن يزداد منه. و كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ في الليل يدعو فيقول صلى الله عليه وسلم:  (( لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ أَسْتَغْفِرُكَ لِذَنْبِي، وَأَسْأَلُكَ رَحْمَتَكَ، اللَّهُمَّ زِدْنِي عِلْمًا، وَلَا تُزِغْ قَلْبِي بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنِي، وَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ )).  وأُثر عن النبي صلى الله عليه وسلَّم دعاءٌ آخر،  (( اللَّهُمَّ انْفَعْنِي بِمَا عَلَّمْتَنِي وَعَلِّمْنِي مَا يَنْفَعُنِي وَزِدْنِي عِلْمًا الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ حَالِ أَهْلِ النَّارِ) ). وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (( لا بورك لي في طلوع شمس يومٍ لم أزدد فيه من الله علماً ) ). وجوه علم الرسول:

 

أولاً: القرآن الكريم :  

      أيها الإخوة الكرام؛ أحد وجوه التي يمكن أن تكون وجوهاً لعلوم النبي عليه الصلاة والسلام هو القرآن الكريم، أي إن فَهْم النبي لكتاب الله يُعَدُّ أعلى فهمٍ على الإطلاق. و مراحل الوحي الذي أوحي إلى النبي عليه الصلاة والسلام، أول شيءٍ بُدئ فيه بالوحي الرؤيا الصادقة، فكان عليه الصلاة والسلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصُبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء - الخلوة مع الله - هذه الخلوة جاءت بعد الرؤيا الصادقة، فكان يخلو في غار حِراء فيتحنَّث فيه، وهو التعبُّد، يتحنَّث الليالي ذوات العدد. وكان إذا جلس في غار حراء؛ يمكن أن يرى الكعبة منه، فهو مطل على الكعبة، لأن الجبل شاهق- جبل النور - في قمَّته تقريباً مغارة لها فتحات عجيبة، إحدى فتحاتها تطل على الكعبة المشرَّفة. المكان موحش، لكن كم كان أُنس النبي بالله عزَّ وجل، حتى غلب أنسه بالله على وحشة المكان؟ جاءه الوحي وهو في غار حراء، جاءه جبريلَ عليه السلام وقال له:  ((اقْرَأْ"، فقال: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ"، قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي  - أي ضغط علي - حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ))  قال له: اقرأ، والنبي أمي لا يقرأ، والأميَّة في حق النبي كمال، لأن الله سبحانه وتعالى ما سمح له أن يتزوَّد بثقافات عصره، لأنه لو سمح له أن يتزوَّد بثقافات عصره، ثم جاء الوحي لاختلط وحي السماء مع ثقافات الأرض، فإذا تكلَّم سأله أصحابه كل يوم، وكل ساعة: يا رسول الله هذا الكلام من أين؟ أمِن وحي السماء، أم من ثقافة العصر؟ لذلك شاء الله عزَّ وجل أنْ تكون حكمته في أنْ ينحِّي عن النبي كل ثقافة العصر، وأن يجعل كلامه وحياً من عند الله عزَّ وجل..  ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾.  فقال بعد أن غطه الثالثة:  ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ هذه أول آيات أُنزلت على النبي عليه الصلاة والسلام - اقرأ - فمِن فضل الله علينا أن ديننا دين علم، دين قراءة، دين حقيقة، دين عقل، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال له جبريل: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ "، أي أن النبي أراد أن يقول: أنا أُمِّي، أنا لا أقرأ ولا أكتب، فجاء الكلام:  اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ .  

      بعض المفسرين فسر قاله تعالى:  ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ* عَلَّمَهُ الْبَيَانَ أي الرحمن علَّم النبي القرآن، علَّمه القرآن، علَّمه بيان معاني القرآن، علمه تلاوته نصاً وروحاً، علَّمه حِكَمَهُ، علَّمه معارفه، علَّمه أسراره، علَّمه إشاراته، علَّمه خصائصه.. وقال تعالى:  ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى* إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ    إنّ النبي لا ينسى إلا أن يشاء الله له أن ينسى، وإذا نسي النبي فلحكمةٍ تشريعيَّة، قال تعالى:  ﴿ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ *إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ أي إنّ الله عزَّ وجل تولَّى أن يحفظ النبيُّ القرآنَ، وأن يعلم معانيه وتفصيلاته وأحكامَه، وأن يعلم كل شيءٍ متعلِّقٌ به، من دون أن يقلق بنسيانٍ، أو بخطأٍ، أو بسهوٍ..  

     قد يسأل أحدكم: ألم يفسِّر النبيُّ القرآنَ؟ الجواب: السنة المطهَّرة كلُّها تفسيرٌ للقرآن الكريم، لكن أحياناً هناك آيات كونيَّة لم يرِدْ فيها تفسير، ولحكمةٍ بالغةٍ بالغة كأنّ الله سبحانه وتعالى مَنَعَ النبيَّ عليه الصلاة والسلام من أن يفسِّر الآيات الكونيَّة، لأنه لو فسَّرها تفسيراً مبسَّطاً يتناسب مع مفهوم العصر لأنكرنا نحن عليه هذا التفسير، ولو فسَّرها تفسيراً يتناسب مع التقدُّم العلمي والحقيقة المطلقة لأنكر أصحابه هذا التفسير، لذلك تُرِكت هذه الآيات لكل عصرٍ كي تُفهم وفق مقياس العصر، وهذه الآيات الكونيَّة التي لم يرِد في تفسيرها نصٌ، هي الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، هي السبق العلمي للقرآن الكريم  

     فقد كان سلوكه صلى الله عليه وسلم تجسيداً لفهمه، أي إن أعظم تفسيرٍ لكلام الله أن تقرأ سُنة رسول الله، وأعظم تفسيرٍ عمليٍ لكتاب الله أن تقرأ سيرة رسول الله، فسُنته القولية بيانٌ، وسنته العمليَّة تطبيقٌ. مثلاً عندما قال الله عزَّ وجل:  ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً    ماذا قال عليه الصلاة والسلام عن هذه السورة؟  (( لَمَّا نَزَلَتْ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُعِيَتْ إِلَيَّ نَفْسِي بِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ))  لذلك ففي آخر أيامه، وآخر الأشهر التي عاشها النبي عليه الصلاة والسلام كان أكثر كلامه أنْ يقول كما روتْ عَنْه عَائِشَةُ قَالَتْ:  (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ قَالَتْ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَرَاكَ أَحْدَثْتَهَا تَقُولُهَا قَالَ جُعِلَتْ لِي عَلَامَةٌ فِي أُمَّتِي إِذَا رَأَيْتُهَا قُلْتُهَا إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ )). أي إن أول وجه من وجوه علم النبي عليه الصلاة والسلام أنه فهِم كلام الله فهماً دَقيقاً دقيقاً، فهِم كل شيءٍ في كلام الله، ويعدُّ فهمُ النبي لكلام الله أعلى فهمٍ على الإطلاق، إذاً بيانه تفسيرٌ حقيقيٌ لكلام الله، وسيرته تجسيدٌ عمليٌّ لفهمه لكلام الله.  

 

ثانياً: الحكمة:  

     أمّا الوجه الآخر، ونكتفي بهذا الوجه الثاني لأن هناك خمسة أو ستة أوجه، والوجه الآخر من وجوه علم النبي عليه الصلاة والسلام الحكمة التي أنزلها الله عليه. قال تعالى:  ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ الكتاب القرآن، تكلَّمنا عنه قبل قليل، فما الحكمة؟ الحكمة كما قال الإمام الشافعي: " هي السنة الظاهرة في أفعاله، وأقواله، وأحواله، وإقراره "،الحكمة سنة النبي قولاً، وفعلاً، وحالاً، وإقراراً. قال تعالى:  ﴿ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ﴾ و سميت السنة النبويَّة حكمة لأن الحكمة تشتمل على سداد القول، وصواب العمل، الفرق بين الفلسفة والحكمة، قد تكون فيلسوفًا دارسًا، ولك نظريات في الفلسفة، لكنك لست حكيماً ما لم تطبِّق مبادئك، كلمة الحكمة تعني جانبًا نظريًا وجانبًا عمليًا، لذلك التعريف دقيق، الحكمة تشتمل على سداد القول وصواب العمل ـ وإيقاع ذلك في مواقعه، ووضعه في مواضعه، ولاشكَّ أن أقواله عليه الصلاة والسلام، وأفعاله، وأحواله، وإقراره هي عين الحكمة. وهذه الحكمة أُوحِيت إليه عليه الصلاة والسلام وحيًا، قال تعالى:  ﴿ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ لذلك يقول علماء الأصول: "سنة النبي وحيٌ غير متلو، والقرآن وحيٌ متلو “، والحديث الذي يؤكِّد هذا، قول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ:  (( أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ .... ))  المراد بمثله معه، السنة كما ذكر العلماء.   



المصدر: الشمائل المحمدية إصدار 1995 - الدرس : 06 - سعة علمه