بحث

ثابت بن قيس الأنصاري الناطق الرسمي

ثابت بن قيس الأنصاري الناطق الرسمي

بسم الله الرحمن الرحيم

     لحكمةٍ بالغة اختار اللهُ سبحانه وتعالى للنبي عليه الصلاة والسلام أصحابه، هم قِمَمٌ في البطولة، لكن البطولات منوَّعة، وهذا الصحابي الجليل سيدنا ثابت بن قيس الأنصاري كان الناطق الرسمي باسم النبي عليه الصلاة والسلام، كان خطيبه، أي آتاه الله قدرةً بيانية، والإنسان يحتاج إلى أن يكون متمكناً من اللُّغة، لأنها قالب المعاني، والمعاني لا يمكن أن توصلها إلى الناس إلا بقالبٍ مقبول . فسيدنا ثابت بن قيس، هذا الصحابي الجليل كان خطيب النبي عليه الصلاة والسلام، فكلما كانت تأتيه الوفود، ويتبارون أمامه بشِعرهم وخطاباتهم، يدعو النبيُّ الكريمُ سيدَنا ثابت بن قيس ليقف خطيباً ينطق باسم النبي عليه الصلاة والسلام .

     ثابت بن قيس الأنصاري، سيدٌ من سادات الخزرج المرموقين، ووجهٌ من وجوه يثرب المعدودين، وكان إلى ذلك ذكيَّ الفؤاد، حاضر البديهة، رائع البيان، جهير الصوت، إذا نطق بزَّ القائلين . فهذا سيدنا ثابت، أحد السابقين إلى الإسلام في يثرب، إذ ما كاد يستمع إلى آيات القرآن يرتِّلُها الداعية المكِّي الشاب مصعب بن عمير، بصوته الشجي، وجرْسه الندي، حتى أَسَرَ القرآنُ سمعَه بحلاوة وقعه ،  هذا كلام الله عزَّ وجل.

     لمَّا قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة مهاجراً استقبله ثابت بن قيس في كوكبةٍ كبيرة من فرسان قومه أكرمَ استقبال، ورحَّب به وبصاحبه الصديق أجملَ ترحيب، خطب زيد بن ثابت بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام خطبةً بليغةً، افتتحها بحمـد الله عزَّ وجـل، والثناء عليـه، والصلاة والسلام على نبيِّه، واختتمها بقوله: (( وإنا نُعاهدك يا رسول الله، على أن نمنعك مما نمنع منه أنفسنا، وأولادنا، ونساءنا، فما لنا لقاء ذلك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: الجنَّة ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ﴾. فما كادت كلمة الجنَّة تصافح آذان القوم، حتَّى أشرقت وجوههُم بالفرحة، وزَهتْ قسماتهم بالبهجة ، وقالوا: رضينا يا رسول الله، رضينا يا رسول الله ) ) منذ ذلك اليوم، جعل النبي عليه الصلاة والسلام ثابت بن قيس خطيبه، كما كان حسَّان بن ثابت شاعره . فصار إذا جاءت النبي وفود العرب لتفاخره، أو تناظره بألسنةٍ فصيحةٍ، ندب النبي لهم ثابت بن قيس، لمصاولة الخطباء، وحسَّان بن ثابت، لمفاخرة الشعراء, وأشرف عمل أن تكون في خدمة الحق، وأعظم عمل أن توظِّف اختصاصك في الحق، وتقول: أنا أختصّ في هذا العمل، فهل لكم حاجة بعملي؟. سيدنا ثابت وظَّف اختصاصه، وطلاقة لسانه، وخطابته في سبيل الحق. 

     وقد كان ثابت بن قيس، مؤمناً عميق الإيمان، تقياً صادقّ التقوى، شديد الخشية من ربه، عظيم الحذر من كلِّ ما يغضب الله عزَّ وجل، لقد رآه النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ذات يومٍ هلعاً ، جزعاً، ترتعدُّ فرائصه، خوفاً وخشيةً، فقال: (( ما بِك يا أبا محمد؟ قال: أخشى أن أكون قد هلكتُّ يا رسول الله، قال: ولمَ؟ قال: لقد نهانا الله جلَّ وعز عن محبَّةِ أن نُحْمَدَ لِمَا لم نفعله، وأجدني أحبُّ الحمد، ونهانا عن الخُيلاء، وأجدني أحبُّ الزهو، فما زال النّبي عليه الصلاة والسلام يهدئ من روعه، حتى قال: يا ثابت، ألا ترضى أن تعيش حميداً، وأن تقتل شهيداً، وأن تدخل الجنة؟ فأشرق وجه سيدنا ثابت بهذه البشرى، وقال: بلى يا رسول الله، بلى يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إنَّ لكَّ ذلك )) .

     لمّا نزل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾  تجنَّب ثابت بن قيس، مجالس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، على الرغم من شدَّة حبّه له، وفرط تعلّقه به، ولزم بيته، حتى لا يكاد يبرحه إلا لأداء المكتوبة، فافتقده النبي   صلّى الله عليه وسلّم, وهذا من السنة، فعلى المسلم أنْ يتفقد أخوانه، ويسأل عنهم. فافتقده النبي صلوات الله عليه، وقال: (( من يأتيني بخبره؟ فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، وذهب إليه، فوجده في منزله محزوناً منكساً، قال: ما شأنك يا أبا محمد؟ قال: شرّ، قال: وما ذاك؟ قال: إنّك تعرف أني رجل جهير الصوت، وأنَّ صوتي كثيراً ما كان يعلو صوت النبي، وقد نزل من القرآن ما تعلم، وما أحسبني إلا أنني قد حبط عملي، وأنني من أهل النّار، رجع هذا الرجل إلى النّبي عليه الصلاة والسلام، وأخبره بما رأى، وبما سمع، فقال: اذهبْ إليه، وقل له: لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة )). فكانت هذه بشارةً عظمى لثابتٍ، وظلَّ يرجو خيرها طوال حياته. 

     شهد ثابت بن قيس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشاهد كلَّها، سوى بدر، وأقحم نفسه في غِمار المعارك، طلباً للشهادة، التي بشَّره النبي بها، فكان يُخْطِئها في كلِّ مرة، وهي قاب قوسين منه أو أدنى، إلى أن وقعت حروب الردة بين المسلمين ومسيلمة الكذَّاب، على عهد الصديق رضي الله عنه. لقد كان ثابت بن قيس أميراً لجند الأنصار، وسالمٌ مولى أبي حذيفة، أميراً لجند المهاجرين، وخالد بن الوليد قائداً للجيش كلِّه، أنصاره ومهاجريه، ومن فيه من أبناء البوادي، ولقد كانت الغلبَةُ في جُلِّ الجولاتِ لمسيلمة الكذاب، ولرجاله على جيش المسلمين، حتى بلغ بهم الأمر أنْ اقتحموا فسطاط خالد بن الوليد، وهمُّوا بقتل زوجته، وقطعوا حبال الفسطاط، ومزَّقوه شرَّ ممزَّق، والفسطاط الخيمة، فرأى ثابت بن قيس يوم ذاك، مِن تضعضعِ المسلمين، ما شحن قلبه أسىً وكمداً، وسمع من تنابذهم، ما ملأ صدره هماً وغماً، فأبناء المدن، يرمون أهلَّ البوادي، وأهل البوادي يصفون أبناء المدن، بأنهم لا يحسنون القتال، ولا يدرون ما الحرب؟ .

     عند ذلك تحنط ثابتٌ وتكفن، ووقف على رؤوس الأشهاد, وقال: (( يا معشر المسلمين، ما هكذا كنّا نقاتل مع رسول الله صلّى الله عله وسلّم، بئس ما عوَّدتم أعداءكم من الجراءة عليكم، وبئس ما عوَّدتم أنفسكم من الانخذال لهم، ثمَّ رفع طرفه إلى السماء, وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء من الشرك، -أي مسيلمة وقومه- و أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء، - أي المسلمين- ثمَّ هبَّ هبة الأسد الضاري، كتفاً لكتف، مع الغُر الميامين، وهم البراء بن مالك الأنصاري، وزيد بن الخطاب، أخ سيدنا عمر بن الخطاب، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وغيرهم، وغيرهم من المؤمنين السابقين، وأبلى بلاءً عظيماً، ملأ قلوب المسلمين حميةً وعزماً، وشحن أفئدة المشركين وهناً ورعباً، وما زال يجالد في كلِّ اتجاهٍ، ويضارب بكلِّ سلاحٍ، حتى أثخنته الجراح، فخرَّ صريعاً على أرض المعركة، قرير العين بما كتب الله له من الشهادة التي بشَّره به حبيبُه النّبي عليه الصلاة والسلام، مثلوج الصدر، بما حقق الله على يديه للمسلمين من النصر )) .

     كان على ثابتٍ درعٌ نفيسة، فمرَّ به رجلٌ من المسلمين، فنزعها عنه، وأخذها لنفسه، وفي الليلة التالية لاستشهاده، رآه رجلٌ من المسلمين في منامه، فقال للرجل: (( أنا ثابت بن قيس، فهل عرفتني؟ قال: نعم، قال: إني أوصيك بوصيةٍ، فإياك أن تقول: هذا حلمٌ، فتضيِّعها، إني لمّا قتلت أمس، مرَّ بي رجلٌ من المسلمين، صفته كذا وكذا، فأخذ درعي، ومضى بها نحو خبائه، في أقصى المعسكر، من الجهة الفلانية، ووضعها تحت قدرٍ له، ووضع فوق القدر رَحْلاً، فأتِ خالد بن الوليد، وقل له: أن يبعث إلى الرجل من يأخذ الدرع منه، فهي ما تزال في مكانها, وأوصيك بأخرى، إياك أن تقول: هذا حلم نائمٍ، فتضيعها، قل لخالدٍ: إذا قدمت على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة، فقل له: إنَّ على ثابت بن قيس من الدين كذا وكذا، وإن فلاناً وفلاناً من رقيقه عتيقان، فليقضِ ديني، وليحرر غِلماني . -رسالة واضحة وضوح الشمس، معنى ذلك أنَّ الإنسان حينما يموت، يرى ويسمع، يرى كلَّ شيء، ويسمع كلَّ شيء، الميت ترفرف روحه فوق النعش، في أثناء تشييع الجنازة، يقول:  (( يا أهلي، يا ولدي، لا تلعبنَّ بكم الدنيا، كما لعبت بي، جمعت المال مما حلَّ وحرم، فأنفقته في حلِّه، وفي غير حلِّه، فالهناء لكم، والتبعة علي )) - ف استيقظ الرجل، فأتى خالد بن الوليد، فأخبره بما سمع، وما رأى، فبعث سيدنا خالد، من يحضر الدرع من عند آخذها، فوجدها في مكانها، وجاء بها كما هي، ولما عاد سيدنا خالد إلى المدينة، حدَّث أبا بكر الصديق، بخبر ثابت بن قيس، ووصيته، فأجاز الصديق وصيته،  وما عُرف أحد قبله ولا بعده، أُجْزِيَتْ وصيته بعد موته سواه )) .



المصدر: الصحابة الكرام : 41 - سيدنا ثابت بن قيس الأنصاري