بحث

زيد بن ثابت حَبرُ هذه الأمة

زيد بن ثابت حَبرُ هذه الأمة

بسم الله الرحمن الرحيم

     في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أصحاب النبي عليهم رضوان الله يموجون فيها موجاً استعداداً لمعركة بدر، والمؤمن دائماً صاحب همةٍ عاليةٍ، فحق للصحابة أن يرضى الله عنهم لأن أمر الله عندهم عظيم، ودعوة النبي عليه الصلاة والسلام إلى الجهاد ملأت قلوبهم، فيبدو أن الصحابة الكرام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شيء يشغلهم إلا الإقبال على الله, وطاعة الله, وخدمة الخلق, والدعوة إلى الله, والجهاد في سبيل الله. 

     النبي عليه الصلاة والسلام كان يلقي النظرات الأخيرة على أول جيش، يتحرك تحت قيادته للجهاد في سبيل الله، وتثبيت كلمته في الأرض، بعد أن أسس النبي دولة الإسلام، وبعد أن تجهز أصحابه لمواجهة ألد أعدائهم، قريش، والنبي عليه الصلاة والسلام شأنه شأن كل القادة, كان يستعرض جيشه قبل أن يعطي أمراً بالتقدم، وهنا أقبل على الصفوف غلامٌ صغير، أقبل غلام صغير لم يتم الثالثة عشرة من عمره، يتوهج ذكاءً وفطنة ويتألق نجابة وحمية ، وفي يده سيف يساويه في الطول تماماً، أو يزيد عنه قليلاً، ودنا من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: ((جُعلت فداك يا رسول الله, ائذن لي أن أكون معك, وأجاهد أعداء الله تحت رايتك, فنظر النبي عليه الصلاة والسلام إليه نظرة سرور وإعجاب، وربَّت على كتفه بلطف وود، وطيَّب خاطره، وصرفه لصغر سنه. عاد الغلام الصغير يجرجر سيفه على الأرض حزيناً ؛ -لأنه حرم شرف صحبة رسول الله- وعادت من ورائه أمه النوار بنت مالك, وهي لا تقل عنه أسىً وحزناً)) . كانت هذه الأم تتمنى أن تكتحل عيناها برؤية غلامها، وهو يمضي مع الرجال مجاهداً تحت راية رسول الله، وكانت تأمل أن يحتل المكانة التي كان من المنتظر أن يحظى بها أبوه لدى النبي صلى الله عليه وسلم لو أنه ظل على قيد الحياة .  

     ما هي الفكرة التي لاحت في ذهن زيد بن ثابت, وما موقف والدته حينما أعلمها بهذه الفكرة؟  لكن الغلام الأنصاري حين وجد أنه قد أخفق في أن يحظى بالتقرب من رسول الله في هذا المجال لصغر سنه، تفتقت فطنته عن مجال آخر, هنا موطن الشاهد. إذا لم يُتح لك أن تجاهد في عصر من العصور، فهناك جهاد آخر، ربنا عز وجل قال: ﴿فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً﴾. الصادق لا يعدم حيلة، الصادق إذا سُدَّ بابٌ فَتَحَ أبوابًا، إذا كان الجهاد لا يُتاح للمسلم في بعض العصور والظروف، لملابسات كثيرة هناك جهاد النفس والهوى، هناك جهاد التعلم والتعليم، هناك جهاد الدعوة إلى الله، هناك جهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هناك جهاد تهذيب النفس، هناك جهاد البذل، بذل المال، هناك أنواع منوعة من الجهاد . فهذا الغلام الأنصاري تفتقت فطنته عن مجال آخر لا علاقة له بالسن، يقربه من النبي صلى الله عليه وسلم ويدنيه إليه، فما المجال إذًا؟ هو مجال العلم والحفظ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: ((خيركم من تعلم القرآن وعلمه)) فذكر الغلام الفكرة لأمه، فهشت لها وبشت، ونشطت لتحقيقها . 

     هل سر النبي بتلاوة زيد, وما اللغة التي أمره أن يتعلمها, وما هي المنزلة العلمية التي حازها من النبي؟ حدثت النوار أم الغلام رجالاً من قومهم برغبة الغلام, وذكرت لهم فكرته، فمضوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم, وقالوا:  (( يا نبي الله, هذا ابننا زيد بن ثابت، يحفظ سبع عشرة سورة من كتاب الله, ويتلوها صحيحة كما أنزلت على قلبك، وهو فوق ذلك حاذق يجيد الكتابة والقراءة، وهو يريد أن يتقرب إليك, وأن يلزمك, فاسمع منه إذا شئت . سمع النبي الكريم من الغلام زيد بن ثابت بعضاً مما يحفظ، فإذا هو مشرق الأداء مبين النطق، تتلألأ الكلمات على شفتيه كما تتلألأ الكواكب على صفحة السماء، ثم إن تلاوته تَنُمُّ عن تأثر بما يتلو، واسيتعاب, وحسن أداء. سُرَّ به النبي عليه الصلاة والسلام، فعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ, قَالَ: أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَتَعَلَّمَ لَهُ كَلِمَاتٍ مِنْ كِتَابِ يَهُودَ, قَالَ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا آمَنُ يَهُودَ عَلَى كِتَابِي, قَالَ: فَمَا مَرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حَتَّى تَعَلَّمْتُهُ لَهُ, قَالَ: فَلَمَّا تَعَلَّمْتُهُ كَانَ إِذَا كَتَبَ إِلَى يَهُودَ كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ, وَإِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُمْ )). مجتمع المسلمين, مجتمع راق, مجتمع حصيف، فلا بد من إنسان يتقن اللغة الأجنبية حتى يكون وسيطًا، أحياناً يأتي شخص أجنبي يريد أن يسلم، فما أروع أن يكون بين الأخوة المؤمنين, إنسان يتقن اللغة الأجنبية. أكب زيد على العبرية حتى حذقها في وقت يسير، وجعل يكتبها للنبي عليه الصلاة والسلام كلها إذا أراد أن يكتب لليهود، ويقرأها له إذا هم كتبوا إليه، وصار مستشارًا في اللغة العبرية . 

     أصبح سيدنا زيد بن ثابت ترجمان النبي عليه الصلاة والسلام، ولما استوثق النبي صلوات الله وسلامه عليه من رصانة زيد, وأمانته, ودقته, وفهمه, ائتمنه على رسالة السماء, وجعله كاتباً للوحي، شرف عظيم، فكان إذا نزل شيء من كتاب الله على قلب النبي عليه الصلاة والسلام، بعث إليه يدعوه. سيدنا زيد بن ثابت أصبح المرجع الأول لكتاب الله, ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم، فكان رضي الله عنه رأس من جمعوا كتاب الله في عهد الصديق، وطليعة من وحدوا مصاحفه في زمن عثمان, أفبَعدَ هذه المنزلة منزلة تسمو إليها الهمم, وهل فوق هذا المجد مجد تطمح إليه النفوس؟. 

     صار سيدنا زيد مع فقهه وعلمه وطول ملازمته للنبي عليه الصلاة والسلام منارة للمسلمين، يستشيره خلفاؤه في المعضلات، ويستفتيه عامتهم في المشكلات، ويرجعون إليه في المواريث خاصة، إذ لم يكن بين المسلمين إذ ذاك من هو أعلم منه بأحكامها، ولا أحذق منه في قسمتها. فقد خطب عمر رضوان الله عليه في المسلمين يوم الجابية, فقال: (( أيها الناس من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسألَ عنِ المال فليأت إليًّ ))، وطلاب العلم من الصحابة والتابعين عرفوا قدر زيد فأجلوه وعظموه لما وقر في صدره من العلم. بحر العلم سيدنا عبد الله بن عباس، يرى زيد بن ثابت قد هم لركوب دابته، فيقف بين يديه ويمسك له بركابه، ويأخذ بزمام دابته، فيقول له زيد بن ثابت: ((دع عنك يا ابن عم رسول الله, فقال ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، فقال له زيد: أرني يدك ، فخرج ابن عباس يده, فمال عليها زيد وقبَّلها، وقال: وهكذا أمرنا أن نفعل بآل بيت نبينا)). أدب ما بعده أدب، تقدير ما بعده تقدير، حب ما بعده حب، إخلاص ما بعده إخلاص، وفاق ما بعده وفاق، علامة إخلاص أحدنا أن يحب أخاه، علامة إخلاص علمائنا أن يحبوا بعضهم بعضاً، علامة إخلاص المؤمنين أن يجتمعوا يداً واحدة، علامة إخلاص الدعوات إلى الله أن تتعاون لا أن تتناقض، علامة إخلاصك أن تؤثر مصلحة المؤمنين على مصلحتك الشخصية، علامة إخلاصك أن تجعل انتماءك وانتماء أخوانك لمجموع المؤمنين، علامة إخلاصك أن تدعو إلى أن يكون المؤمنون يدًا واحدة . 

لما لحق زيد بن ثابت بجوار ربه, بكى المسلمون بموت العلم الذي ووريَ معه، فقال أبو هريرة: ((اليوم مات حَبرُ هذه الأمة، وعسى أن يجعل الله في ابن عباس خلفًا له)) وكلنا على هذا الطريق سنموت، ولكن البطولة أن تخلف أثراً طيباً، فالبطولة أن تترك عملاً طيباً ، والبطولة أن تجعل ذكرك عطراً بعد موتك. 



المصدر: الصحابة الكرام : 45 - سيدنا زيد بن ثابت