بحث

سلمان الفارسي: رحلة الإنسان الفاعل في البحث عن الحقيقة

سلمان الفارسي: رحلة الإنسان الفاعل في البحث عن الحقيقة

بسم الله الرحمن الرحيم

      سيدنا سلمان الفارسي، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (( سلمان منا آل البيت، وأنا جدُّ كل تقي, ولو كان عبداً حبشياً )). 

     هناك مَن يقول: إن الإنسان ابن بيئته، ابن الظروف المحيطةِ به، ابن أمه وأبيه، ابن وراثته، ابن مستوى ذكائه، وكأن الإنسان منفعلٌ، وليس فاعلاً، تؤثِّر فيه الظروف، والبيئة، وتؤثر فيه وراثته، وكأن الإنسان والحالة هذه كرة، إن رأت منحدراً، انطلقت، فإن رأت صعوداً وقفت، لكن الحقيقة خلاف ذلك، الإنسان ليس منفعلاً، بل هو فاعل، فإذا أراد الإنسان شيئاً تخطَّى كل العقبات، وإذا صمم على شيء تجاوز كل المشكلات، والحقيقة أنّ الكسالى والمقصِّرين، والعصاة يتمسكون بنظرية أن الإنسان منفعل، يقول لك: ظروفي صعبة، وبيئتي سيئة، فكل أخطائه يعزوها إلى جهاتٍ خارجةٍ عنه ويستريح. لكن الحقيقة عكس ذلك، الإنسان فاعل وليس منفعلاً .الإنسان ربما يتحرك بخلاف راحته، وربما يتجاوز كل المثبِّطات في بيئته، وربما يحطم كل عقبةٍ تقف أمامه، ولولا أن الإنسان بهذه الصفة لما كان مكرماً، لو كان الإنسان منفعلاً كما يتوهَّم بعض الناس لمَا كان له قيمة، فحكُمه عندئذٍ حكمُ الأشياء المادِّية، تتحرك بحسب القوانين، وبحسب المعطيات، لكن الإنسان إذا أراد شيئاً، وصل إليه، إذا كان صادراً حقاً عن إرادةٍ وإيمان. الله سبحانه وتعالى لا يتعامل مع التمنيات، بل يتعامل مع الصادقين، اصْدُقْ يصدقْك الله سبحانه وتعالى، أي يحقق نواياك . 

     موضوعنا اليوم سيدنا سلمان الفارسي، فلا يوجد إنسان أبعد عن الهدى من هذا الإنسان، إليكم الأسباب، فسيدنا سليمان كان فتىً فارسياً من أهل أصبهان، من قريةٍ يقال لها: جيَّان، يقول سلمان الفارسي عن نفسه: (( كنت فتىً فارسياً، من أهل أصبهان... ))، كان أبو سيدنا سلمان دهقانَ القرية، وكان أغنى أهلها ، وأعلاهم منزلةً، قال: ... وكنت أحبَّ الخلق إليه, ثم ما زال حبه بي يشتد، ويزداد على الأيام، حتى حبسني في البيت، خشيةً علي، كما تحبس الفتيات. وقد اجتهدت في المجوسية  حتى غدوت قيمَّ النار, التي كنا نعبدها، وأنيط بي أمرُّ إضرامها، حتى لا تخبو ساعةً في ليلٍ أو نهار، وكانت لأبي ضيعةٌ عظيمةٌ تدرُّ علينا غلةً كبيرة، وكان أبي يقوم عليها، ويجني غلَّتها، وفي ذات مرةٍ شغله عن الذهاب إلى القرية شاغل، فقال: يا بني، إني قد شُغلت عن الضيعة بما ترى، فاذهب إليها، وتولَّ اليوم عني شأنها، فخرجت أقصد ضيعتنا، وفيما أنا في بعض الطريق، مررت بكنيسةٍ من كنائس النصارى، فسمعت أصواتهم فيها، وهم يصلُّون، فلفت ذلك انتباهي, قال: فلما تأملتهم، أعجبتني صلاتهم، ورغبت في دينهم، وقلت: واللهِ هذا خيرٌ مِن الذي نحن فيه. فالإنسان منطقي، لكن يحتاج إلى لحظة صدقٍ مع نفسه، تأمل سلمانُ، ثم قال:  فو اللهِ ما تركتهم، حتى غربت الشمس، ولم أذهب إلى ضيعة أبي، ثم إني سألتهم، أين أصل هذا الدين؟ قالوا: في بلاد الشام، وسلمان يعيش في أصبهان، في بلاد الفرس،  ولما أقبل الليل، عُدت إلى بيتنا، فتلقاني أبي يسألني عما صنعت؟ فقلت : يا أبتِ, إني مررت بأناسٍ يصلون في كنيسة لهم، فأعجبني ما رأيت من دينهم، وما زلت عندهم حتى غربت الشمس، فذعر أبي مما صنعت، وقال: أيْ بني، ليس في ذلك الدين خير , العاقلُ يقيِّم الأمور، ويتفحَّص، ويتأمَّل، ويزن بميزان العقل، وبميزان المنطق، وبميزان الفطرة. قال:  دينك يا بني، ودين آبائك خيرٌ منه، قلت: كلا والله، إن دينهم لخيرٌ من ديننا، فخاف أبي مما أقول، وخشي أن أرتد عن ديني، وحبسني بالبيت، ووضع قيداً في رجلي ، -قيد الغنى، وقيد الوجاهة، وقيد التفوق في المجوسية، وقيد المحبة، والقيد الخامس قيدٌ حديديُّ وضعه في رجله- خشية أن يرتد عن دينه. قال: لما أتيحت لي الفرصة، بعثت إلى النصارى, أقول لهم: إذا قدم عليكم ركبٌ يريد الذهاب إلى بلاد الشام، فأعلموني، فما هو إلا قليلٌ حتى قدم عليهم ركبٌ متجهٌ إلى الشام، فأخبروني به، فاحتلت على قيدي حتى حللته، وخرجت معهم متخفياً، حتى بلغنا الشام    قلت: من أفضل رجلٍ من أهل هذا الدين؟ قالوا: الأسقف راعي الكنيسة فجئته, فقلت: إني قد رغبت في النصرانية، وأحببت أن ألزمك وأخدمك وأتعلَّم منك وأصلي معك، قال: ادخل، فدخلت عليه، وجعلت أخدمه ، ثم مات ثم إنه لم يمضِ غير قليل حتى نصّبوا رجلاً آخر مكانه، فلزمته، قال: فما رأيت رجلاً أزهد منه في الدنيا، ولا أرغب منه في الآخرة، ولا أدأب منه على العبادة ليلاً ونهاراً، فأحببته حباً جماً، وأقمت معه زماناً، فلما حضرته الوفاة، قلت له: يا سيدي إلى من توصي بي، ومع مَن تنصحني أن أكون من بعدك، قال: أيْ بني، لا أعلم أحداً على ما كنت عليه، إلا رجلاً بالموصل، هو فلان، لم يحرِّف، ولم يبدِّل, فالحق به، فلما مات صاحبي، لحقت بالرجل... - مازال يتنقل من راهب الى اخر ومن مدينة لاخرى-  كنتُ أصِل إليهم في أواخر حياتهم كلهم، -الى أن وصل الى اخرهم- فقال: أقم عندي، فأقمت عند رجلٍ، وقد اقتنيتُ عنده بقراتٍ وغنيمة ، ثم ما لبث أنْ نزل به ما نزل من أصحابه من أمر الله، فلما حضرته الوفاة، قلت له: إنك تعلم من أمري ما تعلم فإلى مَن توصي بي، وما تأمرني أن أفعل؟ فقال: يا بني، والله ما أعلم أن هناك أحداً من الناس بقي على ظهر الأرض، مستمسكاً بما كنا عليه، ولكنه قد أظلَّ واقترب زمانٌ يخرج فيه بأرض العرب نبيٌ يبعث بدين إبراهيم، ثم يهاجر من أرضه إلى أرضٍ ذات نخل بين حرتين، وله علاماتٌ لا تخفى، هو يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، وبين كتفيه خاتم النبوة، فإن استطعتَ أن تلحق بتلك البلاد فافعلْ  -فصارت تنقلاتُه كلها رحلةٌ في البحث عن الحقيقة- قال:  فمكثتُ بعده بعموريا زمناً، إلى أن مر بنا نفرٌ من تجَّار فقلتُ لهم: إن حملتُموني معكم إلى أرض العرب، أعطيتكم بقراتي كلها، وغُنيمتي هذه، وحملوني معهم، حتى إذا بلغنا وادي القُرى غدروا بي، وباعوني لِرجلٍ يهودي، عبدًا رقيقًا. قال:  فالتحقتُ بخدمته، ثم ما لبث أن زاره ابن عمٍ له من بني قُريظة، فاشتراني منه ، بيع ليهودي آخر، -وسلمان يبحث عن ماذا؟ عن الحقيقة. تلك الحقيقة تستحق كل هذا البحث، وتستحق كل هذا الجهد، تستحق كل هذه التنقلات، لأنك إن وصلت إليها وصلت إلى كل شيء، وإن فُزت بها، فُزت بكل شيء، وإن نقلتك الحقيقة إلى الله عزَّ وجل، ما فقدت شيئاً، ولا خسِرت شيئاً، وأن أكبر خسارةً تخسرُها، أن تخسر نفسك التي بين جنبيك، وأنّ أكبر نجاحٍ تنجحه، أن تُزكِّيها وأن تعرفُها بربها، فهو يبحثُ عن الحقيقة، ويطلبُ الله عزَّ وجل، واللهُ لا يخطئ، بل هو حكيم في ذلك، وهذا قدر الله عزَّ وجل- ، قال:  فاشتراني منه، ونقلني معه إلى يثرب، فرأيتُ النخل   الذي ذكره لي صاحبي بعموريا، وعرفت المدينة بالوصف الذي نعتها به، فأقمتُ بها معه. والأحداث تجري بقدر. قال: كان النبيّ حينئذٍ يدعو قومه في مكة، لكني لم أسمع له بذكر، لانشغالي بما يوجبه عليَّ الرقُّ، ثم ما لبِث أن هاجر النبيّ عليه الصلاة والسلام إلى يثرب، وهو لا يدري، فو اللِه إني في رأس نخلةٍ لسيدي، أعمل فيها بعض العمل، وسيدي جالسٌ تحتها، إذ أقبل عليه ابن عمٍ له, وقال له: قاتل الله بني قيْلة، قيلة الأوس والخزرج، واللهِ إنهم الآن لمجتمعون بقباء على رجُلٍ قدم عليهم اليوم من مكة، يزعُم أنه نبيّ، فما إن سمعتُ مقالته حتى مسني ما يشبه الحمَّى، واضطربتُ اضطراباً شديداً، حتى خشيت أن أسقط على سيدي من شدة الفرح، وبادرتُ إلى النُزول مَن النخلة، وجعلت أقول للرجل: ماذا تقول؟ أعد عليّ الخبر ، فغضب سيدي، ولكمني لكمةً شديدةً، وقال لي: مالك ولهذا؟ عُد إلى ما كنتَ عليه من عملك …. ))  قال: (( ...ولما كان في المساء أخذت شيئاً من تمرٍ كنت جمعته، وتوجهت به حيث ينزل الرسول، فدخلت عليه، وقلت له: إنه قد بلغني أنك رجلٌ صالح, ومعك أصحابٌ لك غرباء ذو حاجة، وهذا شيءٌ كان عندي للصدقة، فرأيتكم أحق به من غيركم، ثم قربته إليه، -أيْ ليأكل- فقال لأصحابه: كلوا، وأمسك يده، فلم يأكل، فقلت في نفسي: هذه واحدة، ما أكل من الصدقة، ثم انصرفت، وأخذت أجمع بعض التمر، فلما تحول النبي من قباء إلى المدينة جئته, فقلت له: إني رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هديةٌ لك، أكرمتك بها ، فأكل منها، وأمر أصحابه فأكلوا معه، قالت في نفسي: وهذه الثانية, ثم جئتُ رسول الله وهو ببقيعِ الغرقد ، -وهو البقيع نفسه، ولم يكن يومئذٍ مدفنًا، اسمه بقيعُ الغرقد، إلى جوار الحرم النبوي- قال: حيث كان يواري أحد أصحابه، فرأيته جالساً وعليه شملتان، فسلَّمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره لعلي أرى الخاتم، الذي وصفه لي صاحبي في عمورية، فلما رآني النبيّ أنظر إلى ظهره، عرف غرضي، فألقى رداءه عن ظهره، فنظرت فرأيت الخاتم، فعرفته فانكببت عليه أُقبِّله وأبكي فقال عليه الصلاة والسلام: ما خبرك؟ -ما هي قصتك يا ابني؟- فقصصت عليه قصتي من أولها إلى آخرها سُرَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم سروراً بالغاً . ثم قال:  فأمرني أن أُسمعهم إياها، فقصَّها على مسامعهم، فأُعجبوا منه أشد العجب، وسُروا بها أشد السرور

     هذه قصة سيدنا سلمان الفارسي، في البحث عن الحقيقة، ابحثْ عن الحقيقة، فإن أدركْتَها ووصلت إليها فقد وصلتَ إلى كل شيء، وسعدت إلى الأبد، وإن غابت عنك الحقيقة، فما وصلت إلى شيء، وما فُزتَ بشيء، وكان الخسار والبوار.  



المصدر: الصحابة الكرام : 35 - سيدنا سلمان الفارسي