بحث

صفية بنت عبد المطلب

صفية بنت عبد المطلب

بسم الله الرحمن الرحيم

المرأة في الإسلام:  

      أيها الأخوة الأكارم، مع سيرة صحابة رسول الله رضوان الله عليهم أجمعين، وصحابية اليوم السيدة صفية بنت عبد المطلب، ومن حين لآخر نريد أن نبيِّن لأخواننا الكرام أن دور المرأة في الحياة لا يقلُّ أبداً عن دور الرجل، لكنْ لكلِّ من المرأة والرجل موقعٌ خاصٌ به، وبها، وما الفساد إلا في تبادل المواقع .  

      موقع الطيار، في غرفة القيادة، هل يعدُّ الطيار ضيِّق الأفق، حبيساً في غرفة ضيقة، إذا كان وراء المقود، وأمام الأجهزة الكثيرة، وهو المسؤول عن أرواح ثلاثمئة إنسان من الركاب؟ هذا موقعه الصحيح، فإذا شعر أنه حبيس هذه الغرفة الصغيرة، ولا بدَّ من أن يخرج ليجلس مع الركاب، ويتسامر معهم، وينطلق، ربما سقطت الطائرة، لأنه تخلَّى عن مركز القيادة .  

      هل يقال للطبيب الجراح: أنت هنا حبيسُ هذه الغرفة الضيقة؟ لا، بل هنا موقعه الصحيح، هنا يُجرِي أخطر عملية جراحية، فحينما قال الله عزَّ وجل: ( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ)  

      ليس معنى هذا أن المرأة حبيسة المنزل، ولكن معنى هذا أنها تربِّي أجيالاً، وأن هذا البيت موقعها الصحيح، وأن بإمكان المرأة أن تهزَّ العالم بتربيتها لأولادها، أليس المجتمع محصلة تربيةٍ بيتية؟ فإن كانت التربية البيتية صالحةً، صلح المجتمع، وإن كانت التربية البيتية سيئةً ساء المجتمع .  

      أيها الأخوة، أنه كلما تقدمتَ في طريق العلم، وكلما ارتقيتَ في سلم الأيمان، اكتشفتَ أن المرأة كالرجل تماماً في التكليف، وفي التشريف، ثم اكتشفتَ أيضاً، أن للمرأة خصائص متعلقة بها ، ومتعلقة بمهمتها، وتتناسب مع مهمتها، وأن للرجل خصائص جسمية، وعقلية، ونفسية، واجتماعية، تتعلَّق بدوره في الحياة، وبمهمته، وربما ظهرت بطولاتٌ من النساء، أين منها بطولات الرجال؟ وربما ارتقت المرأة في معرفة الله، وفي الإقبال عليه، وفي الشوق إليه، وفي العمل الصالح، الذي يقرِّبها إليه، وربما فاقت الرجال في ذلك، هذا هو المنطلق السليم، واللهُ جل جلاله يقول: ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)  

      لذلك المرأة قد تزيد عاطفتها على إدراكها، والرجل قد يزيد إدراكه على عاطفته، لكن مجموع الإدراك والعاطفة في الرجل واحد، ومجموع الإدراك والعاطفة في المرأة واحدٌ، فهي عملية توزيع فقط .  

نسب السيدة صفية بنت عبد المطلب :  

      صحابية اليوم امرأةٌ نادرة، ليست كمعظم النساء، امرأة تمثِّل نموذجاً خاصاً من بين النساء، إنها السيدة صفية بنت عبد المطلب، صحابيةٌ باسلة، امرأة حازمة، قدَّمتْ للمسلمين أول فارسٍ سلَّ سيفاً في سبيل الله بعد أن أنشأته تنشئةً سليمة .  

      إنها صفية بنت عبد المطلب، الهاشمية، القرشية، عمَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخت أبيه، هذه المرأة العظيمة، اكتنفها المجد من كل جانب، أبوها عبد المطلب بن هاشم، جد النبي عليه الصلاة والسلام، وزعيم قريش، وسيِّدها المطاع، وأمُّها هالة بنت وهبٍ، أخت آمنة بنت وهبٍ، والدة النبي عليه الصلاة والسلام .  

      بالمناسبة، إذا تحدثنا عن النسب فهو حديث مقبول بشرطٍ واحد، أن يكون الإنسان مؤمناً ، فإذا تحدثنا عن نسبه، فنسبه تاجٌ يضاف إلى إيمانه، أما إذا تحدثنا عن النسب، وليس صاحبه مؤمناً، فهذا النسب لا يقدِّم ولا يؤخِّر، هل من قرابة أشد من قرابة العمومة؟ أبو لهبٍ كان عم النبي عليه الصلاة والسلام، لا قيمة للنسب مع الكفر، لا قيمة للنسب مع المعصية، أما مع الإيمان فالنسبُ تاجٌ يتوِّج الإيمان .  

      أما زوجها الأول الحارث بن حرب، أخو أبو سفيان زعيم قريش، وزوجها الثاني العوَّام بن خويلد، أخ خديجة بنت خويلد، سيدة نساء العرب في الجاهلية، وأولى أمهات المؤمنين في الإسلام، جمعت المجد من كلِّ أطرافه .  

      توفي زوجها العوَّام بن خويلد، يعني النبي عليه الصلاة والسلام وصف الزبير بن العوام بأنه حواري رسول الله،   

فكان الزبير بن العوام ابن هذه المرأة البطلة، كان حواري رسول الله.  

تربية السيدة صفية لولدها الزبير بن العوام :  

      فهذه الصحابية ربَّت ابنها على الخشونة والبأس، ربَّته على الفروسية والحرب، وجعلت لعِبه في بَرْيِ السهام، ودأَبتْ على أن تقذفه في كلِّ مخوفةٍ، وتقحمه في كل خطر إقحامًا،   

      نشَّأت ابنها نشأة خشونةٍ، ونشأة بأسٍ، ونشأة حزمٍ، ودفعته إلى اقتحام الأخطار، وإلى التعامل مع المصاعب، كي يصلب عوده، والطفل اليوم إنْ رأى حشرة صغيرة يصيح خوفاً، ولا يقوى على فعل شيء، بل لا يتحمَّل شيئًا، وإذا اختلفت مواقيتُ طعامه تراه يضْطَرِب، ويصيح، ويغضب، ويفعل ما لا يصح أنْ يفعل .  

      الحقيقة، يبدو أنّ النعيم الزائد للصغار يفسدهم، وتربية الصغار على الخشونة والبأس يقوِّيهم، ويجعل عودهم صُلباً، وتجربتهم في الحياة عميقة، وأخطر ما في حياتنا تربية أولادنا، فإن نَجَحْنا في تربية أولادنا، نجح المجتمع، وإن أخفقنا أخفق المجتمع، وواللهِ لا أرى على وجه الأرض عملاً أعظم مِن أن تعتني بأولادك، وأن تربيهم تربيةً صحيحة، وأن تنشِّئهم نشأةً مستقيمة ، وأن تحملهم على طاعة الله، وأن تجعلهم علماء، وأن تعلِّمهم كتاب الله وسنة رسول الله، وأن تعلِّمهم مكارم الأخلاق، وأن تحملهم على الطاعات، واللهِ ما من عملٍ أجلُّ مِن هذا العمل، وهذا الكلام موجه إلى الآباء .  

      أيها الآباء، بين يديك كنز، ألا تدري ما هو؟ ابنك كنزٌ بين يديك، إنْ نشَّأته تنشئةً فاضلة كان ذخراً لك في الدنيا والآخرة، وكان امتداداً لك إلى أبد الآبدين، فالأب الذي ربَّى أولاده تربيةً قويمة ثم مات، فإنّه لم يمت ذكرُه، ولو أنه فارق الحياة  .  

      إذا كان لك ابن فربَّيتَه تربيةً صحيحة، وفقَّهته في الدين، وعلَّمته كتاب الله، وسنة رسول الله، وقوَّمت اعوجاجه، وهذَّبت مشاعره، وحملته على طاعة الله، فأنت لا تموت ولو غادرتَ الدنيا، ولو أن جسمك غاب تحت الثرى، هذا ابنك خليفةٌ لك، ابنك استمرارٌ لك، ابنك صدقةٌ جاريةٌ لك، لا ينقطع خيرها إطلاقاً .  

      أيها الأخوة، لا يصلح مجتمعنا إلا بتربية أولادنا، ولا حلَّ للمسلمين إلا أن يؤسِّسوا أُسَراً إسلامية، مسالكها إسلامية، ونشاطاتها إسلامية،   

      مرة التقيت مع رجلٍ يريد أنْ يؤدّيَ زكاة ماله لبعض الجمعيات الخيرية، فقال لي: أنا أحب أن أجعل ابني يدفع هذا المبلغ لأعلِّمه على الإنفاق وأدَرِّبه عليه، فقدَّم المبلغ لابنه، وكلَّفه أن يذهب إلى الجمعية الخيرية ليدفع لها المبلغ، حتى يتعوَّد الابن على الإنفاق، وليس على القبض فقط، فالابن لا بدَّ أن يربَّى، والنبي عليه الصلاة والسلام، قال:  اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم  

      يعني عوِّد أولادك على الطعام الطيب والخشن، فالإنسان الغارق في النعيم لا يصلح أن يكون إنساناً منتجاً .  

إسلام صفية:  

      وحين بُعث النبي عليه الصلاة والسلام بدين الهدى والحق، وأرسله الله للناس نذيراً وبشيراً، أمره أن يبدأ بذوي القربى، فقال تعالى: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)  

      يقاس عليها، هل بيننا شخصٌ ليس له أقرباء؟ فلماذا أنت ساكت إذًا؟ لمِ لا تنقل هذا العلم إلى أقربائك، إلى أهلك، إلى أولادك، إلى من حولك، إلى جيرانك، إلى أصدقائك؟ قال تعالى: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )

      فلما بُعث النبيُّ، وأمره الله أن يبدأ بذوي قرابته، جمعهم  صغاراً وكباراً،   

       قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عـَزَّ وَجَلَّ   

       (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)  

       قَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكـُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا  

      إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام، لا يستطيع أن ينقذك من عذاب الله، أفيستطيع إنسانٌ آخر؟ انظر إلى هذا الكلام ما أجمله وما أصوبَه:   

       يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا  

      دعاهم إلى الإيمان، وحضَّهم على التصديق برسالته، أقبل على هذا النور العظيم مَن أقبل، وأعرض عنه مَن أعرض، موطن الشاهد أن صفية بنت عبد المطلب، موضوع درسنا اليوم، كانت مع من أقبل على هذا الدين الجديد، ومع من أسلم، ومع من قبل هذه الدعوة الجديدة، انضمتْ صفية بنت عبد المطلب عمَّة النبي إلى ركب المؤمنين، هي وفتاها الصغير الزبير بن العوام، وعانت مع ابنها ما عاناه المسلمون .  

      الصحابة الكرام بذلوا الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، وتحملوا المقاطعة والجوع، وتحملوا الاضطهاد والتنكيل، وأُخرجوا من ديارهم .  

      تصوَّروا رجلا يسكن في بلده، وله بيت، ومحل، وسيارة، ومكانة اجتماعية، ثم أُخرج من بلده، وأقام في بلد بعيد، يفترش الأرض، ويلتحف السماء، وليس معه ثمن أدنى طعام، فالهجرة ليست سهلة، فالنبي هاجر، والهجرة حقيقة، وهي اقتلاع من الجذور، هذه هي حقيقة الهجرة .  

      أقول لكم بصراحة وبساطة: كان من الممكن أن يخلق الله النبي وأصحابه من دون كفار ، فلما جاء الوحيُ للنبيِّ آمنوا جميعاً، وسلكوا درب السلامة، وعاشوا حياة سعيدة، وانتهى الأمر، لا فتوحات، ولا حروب، ولا مضايقات، ولا خصومات، ولا تنكيل، ولا إخراج من الديار، كان ذلك ممكنًا، ولكن متى يرقى الإنسان؟ لا ترقى إلا بالمعاناة، لا ترقى إلا بالمعارضة، ولا ترقى إلا بتحمُّل المشقات .  

      لذلك والنبي عليه الصلاة والسلام يجري عليه كلُّ ما يجري على البشر، ولولا ذلك لما كان سيد البشر، لقد جاع وخاف، قال:  أوذيت في الله ولم يُؤذَ أحدٌ مثلى، وخفت ولم يخف أحدٌ مثلـي، ومضـى علي ثلاثـون يوماً لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال  

      فهل الهجرة سهلة؟ وهو في غار حراء، وفي غار ثور، وهو في معركة الخندق، حيث قال بعضهم لبعض:  

      أيعدنا صاحبكم، أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، لم يقل: نبي، لم يقل: رسول الله، قال: صاحبكم، وفي نظره أنّ الإسلام قضية بضع ساعات ، ثم ينتهي الإسلام كلياً، ويندثر، هكذا ظن المنافقين .  

      فأنت لا ترقى إلا بالمجاهدة، ولا ترقى إلا بالمعارضة، ولا ترقى إلا بالمكابدة، ولا ترقى إلا بالمقاومة، فإذا عارضَك في البيت أهلُك بعض المعارضة، لأنك أخذتَ لنفسك هذا المسلك، فلتصبرْ ولتحتسبْ، وقد أحْسنَ المتنبي في قوله:   

إِذَا اعْتَادَ الفَتَى خَوْضَ المَنَايَا  فَأَهْوَنُ مَا يَمُرُّ بِهِ الوُحُولُ  

هجرتها إلى المدينة:  

      أيها الأخوة، السيدة صفية بنت عبد المطَّلب، عمَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم، وابنها الزبير بن العوام تحملا في مكة الشدائد، والمضايقات، والتنكيل، والمعارضات، والعزلة، والمقاطعة، والفقر، قال تعالى: ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)  

      ليبلوكم حتى يرقيكم، فلما أذِن اللهُ لنبيِّه صلى الله عليه وسلَّم، وللمؤمنين بالهجرة إلى المدينة، خلَّفت السيدة الهاشمية وراءها مكة، بكلِّ ما لها فيها من طيوب الذكريات، ودروب المفاخر والمآثر، ويمَّمَتْ وجهها شطر المدينة مهاجرة بدينها إلى الله ورسوله .  

      هاجرت مع من هاجر، كم تقدِّرون عمر هذه السيدة الجليلة التي ربَّت ابنها تربيةً خشنة، تربيةً على البأس، وعلى الشجاعة، وعلى اقتحام المخاطر، وآمنتْ مع النبي عليه الصلاة والسلام، وتحمَّلتْ كلَّ الصعاب، وهاجرتْ معه، كم تقدرون عمرها؟ كان عمرها ستين عاماً، امرأةٌ لا كالنساء .  

بعض مواقفها:  

أولا: يوم أحد:      

      في معركة أحد خرجتْ مع جند المسلمين، في ثُلّةٍ من النساء جهاداً في سبيل الله، فجعلتْ تنقل الماء، وتروي العطاش، وتبري السهام، وتصلح القسي، كلّه عمل خاص بالنساء، لكن حمزة بن عبد المطلب، من هو؟ أخوها، أخوها وقد قتل في معركة أحد، وبُقِر بطنه، وانتزعت كبده، ومضغتْ، وثُلِمت أذناه، وقطع أنفه، ومثِّل به، وابنها الزبير بن العوام حواري النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأت المسلمين ينكشفون عن رسول الله إلا قليلا منهم، ووجدتْ المشركين يوشكون أن يصِلوا إلى النبي ويقضوا عليه، طرحتْ سقاءها أرضاً .  

      طبعاً هذا موقف شخصي، المرأة ليست مكلفة بالجهاد، لطبيعتها الأنثوية، لكن هذا موقف شخصي، عمرها ستون عاماً، وعملها في المعركة عمل إنساني، لكن لما رأت النبي عليه الصلاة والسلام، ابن أخيها قد انكشف، واضطرب المسلمون، ألقت السقاء، وهبَّت كاللبؤة التي هوجم أشبالها، وانتزعت من يد أحدهم رمحه، ومضت تشقُّ به الصفوف، وتضرب بسنانه الوجوه، وتزأر في المسلمين قائلةً:   

      وَيْحكم انهزمتم عن رسول الله، فلما رآها النبي عليه الصلاة والسلام، مقبلة خشي عليها أن ترى أخاها حمزة، وهو صريع، خاف عليها، -خاف على مشاعرها .  

      لكن والله أيها الأخوة، بين نساء الصحابة نساء ولكنّهن في عظمة عظماء الرجال، أنا أقرأ عنهن، ولا أصدِّق.  

       امرأةً في أحد، قُتِل زوجها، وقُتِل أبوها، وقُتل أخوها، وقُتِل ابنها، ورأتهم صرعى في أرض المعركة، واحداً جانب الآخر، وهي تقول:   

       ما فعل رسول الله، ولم تسكن مشاعرها، إلا بعد أن رأت النبي عليه الصلاة والسلام سليماً معافى، قالت: يا رسول الله، كل مصيبةً بعدك تهون  

      ما هذه المرأة؟ واللهِ إنها مِن نوع خاص  

      فالنبي عليه الصلاة والسلام أشار إلى ابنها الزبير قائلاً:   

       المـرأةَ يا زبيـر، المرأةَ يا زبير، أمَّك يا زبير، أبعِدْها عن ساحة المعركة،   

       فأقبل عليها الزبير، وقال: يا أمـي إليك، يا أمي إليك،   

       فقالت له: تنحَّ عني لا أمَّ لك،   

       قال: إن رسول الله يأمرك أن ترجعي،   

       قالت: ولمَ؟ إنه قد بلغني أنه مُثِّل بأخي، وذلك في الله،   

       فقال له النبي الكريم: خلِّ سبيلها يا زبير، فخلَّى سبيلها  

      فلما وضعت المعركة أوزارها، وقفت صفية وهي في السَّتِّين من عمرها على أخيها حمزة، فوجدته قد بُقِر بطنُه، وأُخرِجتُ كبدُه، وجُدِع أنفه، وثُلِمتْ أذناه، وشُوِّه وجهه،   

       فاستغفرت له وجعلت تقول: إن ذلك في الله، ولقد رضيتُ بقضاء الله، واللهِ لأصبرنّ، ولأحتسبنّ إن شاء الله،  

      هنا عظمة المؤمن، فهو كالجبل رسوخاً، قال تعالى: ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)   

      وقد قيل: لقد دُعِيَ النبي عليه الصلاة والسلام إلي التمثيل بالكفار، نظير تمثيلهم بعمِّه حمزة،   

      فقال عليه الصلاة والسلام:  لا أمثل بهم، فيمثل الله بي، لو كنت نبياً  

       لقد نُهِيَ عن التمثيل، والنبي يخاف الله، وهو وقَّاف عند كلام الله.  

ثانيا: يوم الخندق: 

      أيها الأخوة، لكن موقف هذه السيدة الجليلة يوم الخندق موقفٌ غريب عجيب بطوليّ،  فكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا عزم على غزوة من الغزوات أن يضع النساء والذراري في الحصون، خشية أن يغدر بالمدينة غادرٌ في غيبة حُماتِها،   

فلما كان يوم الخندق جعل نساءَه وعمّته معهم، وطائفة من نساء المسلمين، في حصنٍ لحسان بن ثابت، ورِثه عن آبائه، وكان من أكثر حصون المدينة مناعةً، وأبعدها منالاً، وبينما كان المسلمون يرابطون على حوافِّ الخندق، في مواجهة قريش، وأحلافها، وقد شغلوا عن النساء والذراري بمنازلة العدو، فأبصرتْ صفيةُ بنت عبد المطلب شبحاً يتحرَّك في عتمة الفجر، فأرهفتْ له السمع، وأحدَّتْ إليه البصر، فإذا هو يهوديٌ أقبل على الحصن، وجعل يَطوف به، متحسساً أخباره، متجسساً على مَن فيه، فأدركتْ أنه عينٌ لبني قومه، جاء ليَعلم أفي الحصن رجالٌ يدافعون عمن فيه، أم أنه لا يضمّ بين جدرانه إلا النساء والأطفال ؟ فإذا علم هذا اليهودي المتجسس أنّ هذا الحصن لا يضمّ إلا نساءً وأطفالاً، داهموا هذا الحصن، وسبَوْا النساء والذراري، فقد نقضوا عهدهم مع النبي، وانتهى الأمر ، وصاروا في صف الأعداء من قريش وأحلافها .  

      فقالت في نفسها: إن يهود بني قريظة قد نقضوا ما بينهم وما بين رسول الله من عهدٍ، وظاهروا قريشاً وأحلافها على المسلمين، وليس بيننا وبينهم أحدٌ من المسلمين يدفعون عنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه مرابطون في نحور العدو، فإن استطاع عدو الله، هذا اليهودي أن ينقل إلى قومه حقيقة أمرنا سبَى اليهودُ النساءَ، واسترقُّوا الذراري، عند ذلك بادرت إلى خمارها، فلفَّته على رأسها، وعمدت إلى ثيابها فشدَّتها على وسطها، وأخذت عموداً على عاتقها، ونزلت إلى باب الحصن، فشقَّته في أناةٍ وحذقٍ، وجعلت ترقب من خلاله عدو الله في يقظةٍ وحذر، حتى إذا أيقنت أنه غدا في موقفٍ يُمَكِّنها منه، حملت عليه حملةً حازمةً صارمةً، وضربته بالعمود على رأسه، فطرحته أرضاً، ثم عززتْ الضربة الأولى بثانيةٍ وثالثة، حتى أجهزت عليه، وأخمدتْ أنفاسه بين جنبيه، وبادرتْ إليه ، فاحتزّتْ رأسه بسكين كانت معها، وقذفت بالرأس من أعلى الحصن، فطفق يتدحرج على سفوحه، حتى استقر بين أيدي اليهود، الذين كانوا يتربَّصون في أسفله، فلما رأى اليهود رأس صاحبهم، قال بعضهم لبعضٍ: قد علمنا أن محمدًا لم يكن ليترك النساء والأطفال وحدهم، من غير حماةٍ، ثم عادوا أدراجهم  

      لقد أجرى اللهُ على يديها حفظَ نساء المسلمين وسلامتهنّ بهذه الشجاعة النادرة، رضي الله عن صفية بنت عبد المطلب، كانت مثلاً فذَّةً للمرأة المسلمة، ربَّت وحيدها فأحكمت تربيته، أصيبت بشقيقها، فأحسنت الصبر عليه، اختبرها اللهُ في الشدائد، فوجد فيها المرأة الحازمة، العاقلة ، الباسلة، إن صفية بنت عبد المطلب، كانت أول امرأةٍ قتلت مشركاً في الإسلام، هذه بطولة، وهذه حالة خاصة بالطبع، فلا نُكلِّف النساء أن يكنّ كذلك، هذه حالة خاصة، وهذا موقف شخصي ، لكن وهي في الستين من عمرها كانت في أعلى درجات إيمانها، وأعلى درجات محبَّتها لدين الله ، ولرسول الله، وأعلى درجات دفاعها عن هذا الدين العظيم .  



المصدر: السيرة - رجال حول الرسول - الدرس (32-50) : السيدة صفية بنت عبد المطلب