لهذا الصحابي مواقف كثيرة وجليلة، تتمحور حول أن هذا الخليفة العظيم سوّى نفسه مع أضعف الناس ومع أفقر الناس ...
مرة في عام المجاعة شعر أن أمعاءه تضطرب فخاطب بطنه، وقال: “ قرقر أيها البطن، أو لا تقرقر، فو الله لن تذوق اللحم حتى يشبع منه صبية المسلمين”. كان يأكل الزيت، ويبتعد عن السمن، لأن سعره مرتفع جداً، ويحبّ أن يسوي نفسه بعامة المسلمين، فقال لبطنه: "لتمرنن أيها البطن على الزيت ما دام السمن يباع بالأواقي" أي لندرتِه صار يباع بالأواقي .قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ .
يقول هذا الخليفة العظيم: "كيف يعنيني شأن الناس إذا لم يصبني ما يصيبهم ؟" .
ذات مرة جاءته هدية من أذربيجان، وهي طعام نفيس، دخل هذا الرسول المدينة في منتصف الليل فكره أن يوقظ أمير المؤمنين، فتوجَّه إلى المسجد النبوي الشريف، في المسجد سمع صوت رجل يصلي ويبكي ويناجي ربه، ومما سمع من كلام هذا الرجل: "ربي هل قبلت توبتي فأهنئ نفسي أم رددتها فأعزيَها؟ “ فقال هذا الرسول: ”من أنت يرحمك الله ؟ قال: أنا عمر, قال: يا سبحان الله ألا تنام الليل؟ فيجيبه هذا الخليفة العظيم: أنا إن نمت ليلي كلَّه أضعت نفسي أمام ربي، وإن نمت نهاري أضعت رعيَّتي“ وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام: ”إن لله أعمالاً لا يقبلها بالليل" أرأيتم إلى هذا التوازن؟ التوازن بين عملين، بين الإحسان للخلق، والاتصال بالحق. فلما أذَّن الفجر صلّى أمير المؤمنين بالناس, ودعا ضيفه إلى البيت, وقال لامرأته حفصة: "ماذا عندك من الطعام؟ قالت: ملح وخبز" كان فقراء المسلمين يأكلون اللحم، أما سيدنا عمر فكان طعامه الخبز والملح، بعد أن أطعم ضيفه, وقد ندم الضيف أشدّ الندم على أنه اختار طعام الأمير، قال: "ما هذا ؟, قال: حلوى يصنعها أهل أذربيجان, وقد أرسلني بها إليك عُتبة بن فرقد" وكان والياً على أذربيجان، "فذاقها عمر فوجد لها مذاقاً شهياً، فسأل الرسول: أوكل المسلمين هناك يطعمون هذا؟ قال الرجل: لا, وإنما هو طعام الخاصة, فأعاد عمر إغلاق الوعاء جيداً, وقال للرجل: أين بعيرك؟ خذ حملك هذا وارجع به لعتبة، وقل له: عمر يقول لك: اتق الله واشبع مما يشبع منه المسلمون" .
سيدنا عمر لا يسمح لأهله أن يتجاوزوا الحدود، بل إن أهله كان عليهم تبعة مضاعفة فيما لو وقعوا فيما نهى عمر عنه، فكان إذا سنّ قانوناً, أو أمر أمراً، أو حظر أمراً، جمع أهله أولاً, وقال: "إني قد نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم كما ينظر الطير إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا، وإن هِبتم هابوا، وإني والله لا أوتى برجلٍ منكم وقع فيما نهيت الناس عنه إلا ضاعفت له العذاب، فمن شاء منكم فليتقدم، ومن شاء فليتأخر" أصبحت القرابة من عمر مصيبة، وأية مصيبة، لأنها تحمل صاحبها عقاباً مضاعفاً .
مرة خرج إلى السوق في جولة تفتيشية, فيرى إبلاً سمينة تمتاز عن بقية الإبل بنموّها وامتلائها، يسأل عمر بن الخطاب: “إبل من هذه؟ فقالوا: هي إبل عبد الله بن عمر ، وانتفض أمير المؤمنين، وكأن القيامة قد قامت، وقال: عبد الله بن عمر, بخٍ بخٍ يا ابن أمير المؤمنين ”(أي الله يعينك ) وأرسل في طلبه فوراً، وأقبل عبد الله يسعى، وحين وقف بين يدي والده, أخذ عمر يفتل سبلة شاربه، وتلك عادته إذا أهمَّه أمرٌ خطير، فقال: "ما هذه الإبل يا عبد الله؟ فأجاب: إنها إبل أمضاء ( يعني هزيلة ) اشتريتها بمالي، وبعثت بها إلى الحمى ( أي إلى المرعى ) أُتاجر فيها، وأبتغي ما يبتغي المسلمون، فقال عمر متهكماً تهكُماً لاذعاً, ويقول الناس حين يرونها: ارعوا إبل ابن أمير المؤمنين، اسقوا إبل ابن أمير المؤمنين، وتسمن إبل ابن أمير المؤمنين، فبع هذه الإبل، وخذ رأس مالك منها، واجعل الربح في بيت مال المسلمين" هذا إدراك نادر, أن هذا ابن أمير المؤمنين، فلعل الناس أعطوه فوق ما يستحق، ولعلهم أكرموه، أرأيتم هذه النزاهة .
مرة وصل إلى المدينة مال كثير من أموال الأقاليم، فتذهب إليه ابنته حفصة رضي الله عنها لتأخذ نصيبها، وتقول له مداعبة: "يا أمير المؤمنين حقّ أقاربك في هذا المال، فقد أوصى الله بالأقربين" فيجيبها جاداً: “يا بنيتي حقّ أقربائي في مالي، أما هذا فمال المسلمين، قومي إلى بيتك” أي اذهبي, طبعاً من علمه ذلك؟ إنّه النبي عليه الصلاة والسلام، حينما قال لأحب الناس إليه فاطمة البتول: "لا يا فاطمة إن في المسلمين من هم أحوج منك لهذا المال، والله لا أؤثرك على فقراء المسلمين" .
مرة أراد هذا الخليفة العظيم أن يسجِّل في الديوان أسماءَ أصحابه حتى يعطيهم من فيء المسلمين بحسب أقدارهم، وسبقهم في الإسلام، قال: "ضعوا عمر وقومه في هذا الموضع، فقد رُتِّبت الأسماء ترتيباً بحسب السبق في الإسلام، وبحسب قُرب الصحابي من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، هكذا أمر، فجاءت القائمة كالآتي: بنو هاشم أهل بيت النبي، ثم آل أبي بكر، ثم آل عمر، فنقل اسمه، واسم أهله إلى مكان بعيد جداً، فلما ذهبوا إليه أهله بني عدي راجين أن تظل أسماؤهم في مقدمة الديوان كي ينالوا أنصبائهم, قالوا له: ألسنا أهل أمير المؤمنين؟ فأجابهم عمر: بخٍ بخٍ، أردتم الأكل على ظهري، وأن أهب حسناتي لكم، لا والله لتأخذن مكانكم، ولو جئتم آخر الناس، لكم مكان لا يتقدم ولا يتأخر، ولو كنتم أهلي وأقربائي" .
وقال هذا الخليفة حينما اقترح عليه أحدهم أن يجعل ابنه في عمل، قال: "من استعمل رجلاً لمودة أو قرابة لا يحمله على استعماله إلا ذلك, فقد خان الله ورسوله والمؤمنين".
ألم يقل مرة لأحد الولاة: "ماذا تفعل إذا جاءك الناس بسارقٍ أو ناهب ؟ قال: أقطع يده قال: فإن جاءني من رعيَّتك من هو جائع أو عاطل فسأقطع يدك، فإن الله قد استخلفنا عن خلقه لنسد جوْعتهم، ونستر عورتهم، ونوفر لهم حرفتهم، فإن وفينا لهم ذلك تقاضيناهم شكرها، إن هذه الأيدي خُلِقت لتعمل، فإذا لم تجد في الطاعة عملاً التمست في المعصية أعمالاً، فأشغلها بالطاعة قبل أن تشغلك بالمعصية " .
مرة قال له بعض أصحابه: "إن الناس هابوا شدتك “ فقال هذا الخليفة: ”بلغني أن الناس هابوا شدَّتي، وخافوا غِلظتي، وقالوا: قد كان عمر يشتدّ ورسول الله عليه الصلاة والسلام بين أظهرنا، ثم اشتدَّ علينا وأبو بكر ألين منه، فكيف وقد صارت الأمور إليه؟ فقال: ألا من قال هذا فقد صدق، فإني كنت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلَّم عونه وخادمه، وكان عليه الصلاة السلام لا يبلغ أحد صفته من اللين والرحمة، وكان كما قال الله تعالى: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾فكنت بين يديه سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني, فلم أزل مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم على ذلك حتى توفَّاه الله وهو عني راضي، والحمد لله على ذلك كثيراً, وأنا به أسعد“ قال: ”ثم ولي أمر المسلمين أبو بكر، فكان من لا تنكِرون دعته وكرمه ولينه، فكنت خادمه وعونه، أخلِطُ شدتي بلينه فأكون سيفاً مسلولاً حتى يُغمدني، أو يدعني فأمضي، فلم أزل معه كذلك حتى قبضه الله عزَّ وجل، وهو عني راض، والحمد لله على ذلك كثيراً، وأنا به أسعد “ فقال: ”ثم إني قد ولّيت أموركم أيها الناس, فاعلموا إن تلك الشدة قد أضعفت, ولكنها إنما تكون على أهل الظلم والتعدي، فأما أهل السلامة والدين والقصد فأنا ألين لهم من بعضهم بعضاً " .
قال: " أيها الناس, لكم علي خصال أذكرها لكم فخذوني بها: لكم عليَّ أن لا أجتبي شيئاً من خراجكم، ولا مما أفاء الله عليكم إلا من وجهه " يعني لكم عليّ أن لا آخذ من أموالكم شيئاً إلا ضمن الحق, " ولكم عليّ أن أزيد عطاياكم وأرزاقكم إن شاء الله تعالى “ أي بما يتناسب الدخل مع المعيشة، ”ولكم عليَّ أن أَسُدَّ ثغوركم“ أي أحصن الحدود، وأحمي البلاد من عدوان الأعداء، ”ولكم عليَّ أن لا أُلقيكم في المهالك“ فالإنسان غالي، فإذا أُلقي في المهالك فقد خان الله ورسوله عليه الصلاة والسلام, ”وإذا غِبتم في البعوث (في الجهاد) فأنا أبو العيال حتى ترجعوا" أي أنا متكفل بأهلكم وأولادكم, "فاتقوا الله وأعينوني على أنفسكم بكفِّها عني، وأعينوني على نفسي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحضاري النصيحة فيما ولاّني الله من أمركم" .
مرة قدم بعض تجَّار المدينة, وخيَّموا عند مشارفها، وقد أراد هذا الخليفة العظيم أن يقوم بجولة تفتيشية في أطراف المدينة، فاصطحب معه عبد الرحمن بن عوف ليتفقد أمر القافلة، وكان الليل قد تصرّم، واقترب الهزيع الأخير منه، وعند القافلة النائمة اتخذ عمر وصاحبه مجلساً على مقرُبةٍ منها، وقال عمر لعبد الرحمن: "فلنمض بقية الليل هنا نحرس ضيوفنا “ وهما جالسان سمع صوت بكاء صبي، فانتبه عمر وصمت، وانتظر أن يكُفَّ الصبي عن بكائه، ولكنه تمادى فيه، فمضى يسرع صوبه، و قال لها: ”اتق الله وأحسني إلى صبيِّك“ أي أرضعيه، ثم عاد إلى مكانه, وبعد حينٍ عاود الصبيُّ البكاء، فهرول نحوه عمر، ونادى أمَّه, قُلت لك: ”اتق الله وأحسني إلى صبيِّك“ وعاد إلى مجلسه ، لم يكد يستقرّ حتى زلزله مرةً أُخرى بكاء الصبي، فذهب إلى أمه, وقال لها: ”ويحك إني لأراكِ أم سوء، ما لصبيِّك لا يقرُّ له قرار ؟" أي لما لا ترضعيه؟ قالت وهي لا تعرفه: "يا عبد الله قد أضجرتني، إني أحمله على الفِطام فيأبى, سألها عُمر: ولما تحملينه على الفِطام؟ قالت: لأن عمر لا يفرض العطاء إلا للفطيم“ أي أن التعويض لا يعطيه إلا للفطيم, قال: ”وكم له من العمر؟ قالت: بضعة أشهر, قال: ويحك لا تعجليه “ يقول صاحبه عبد الرحمن بن عوف، كأن سيدنا عمر صُعق، وأمسك رأسه بيديه, وأغمض عينيه, وقال: ”ويحك يا ابن الخطاب, كم قتلت من أطفال المسلمين؟ " عد نفسه قاتلاً, لأنه أمر أن يُنفق التعويض على هذا الغُلام بعد الفطام. ثم أمر منادياً نادى في المدينة: " لا تعجلوا على صبيانكم بالفطام، فإنا نفرض من بيت المال لكلّ مولودٍ يولد في الإسلام من دون فطام “ وذهب ليصلي الفجر مع أصحابه، فالناس ما استبانوا قراءته من شدة بكائه، وكان يقول: ”يا بؤساً لعمر, كم قتل من أولاد المسلمين؟ ".