بحث

عمر بن الخطاب4 العدالة الراشدة في أبهى صورها

عمر بن الخطاب4 العدالة الراشدة في أبهى صورها

بسم الله الرحمن الرحيم

     ليس غريباً أن أقـول لكم: إننا أمام وقائع كالأساطير، ولكنها وقعت، الأساطير قصص لا يمكن أن تقع، وإن دلت هذه الأخبار على شيء فإنما تدل على أثر الإيمان الصحيح في نفس الإنسان، فهذا سيدنا عمر عملاق الإسلام له أخبار ربما لا تصدق، ولكنها وقعت، إنها ثمرة مِن ثمار إيمانه . وهو على فراش الموت حينما طعن من قبل من طعنه أوصى أصحابه, وقال: "يا علي إذا ولِّيت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني هاشم على رقاب الناس، ويا عثمان إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل بني أبي معيط على رقاب الناس، ويا سعد إذا وليت من أمور الناس شيئاً فأعيذك بالله أن تحمل أقاربك على رقاب الناس“ . وكان هذا الخليفة العظيم حينما يخاطب عماله, يقول لأحدهم: ”لا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم" .

      كان من طموحات هذا الخليفة, أنه قال مرة: “لئن عشت إن شاء الله تعالى لأسيرن في الرعية حَوْلاً, فإني أعلم أن للناس حوائج تقطع دوني إما أنّ ولاتهم لا يرفعونها إلي، وإما أنهم لا يصلون إلي, أسير إلى الشام فأقيم فيها شهرين, وبالجزيرة شهرين, وبمصر شهرين وبالبحرين شهرين, وبالكوفة شهرين, وبالبصرة شهرين, والله لنعمَ الحوْلُ هذا”. فقد كان يتمنى أن يقوم بجولةٍ تفقدية يطّلع فيها بنفسه على مشكلات الناس وحاجاتهم وأحوالهم .

     مرة سأل أصحابه, قال: "أرأيتم إن استعملّت عليكم خير من أعلم, ثم أمرته بالعدل أيبرئ ذلك ذمتي أمام الله؟ فيقول أصحابه: نعم, استعملت عليهم خيرهم، وأورعهم، وأعلمهم، وأفضلهم، وأمرتهم بالعدل والإنصاف والإحسان، فماذا بقي عليك؟ يقول: كلا, لم تنتهِ مهمتي حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا ؟ ثم يقول: أيما عامل لي ظلم أحداً، وبلغتني مظلمته فلم أغيِّرها, فأنا ظلمت" عدَّ نفسه ظالماً إذا بلغته مظلمة أحد عماله, ولم يغيِّر هذه المظلمة .

     كان هذا الخليفة الراشد يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء دقيقاً، فالنبي عليه الصلاة والسلام, قال: "إنا والله لا نولي هذا الأمر أحداً يسأله أو يحرص عليه". وذات يوم أسَرَّ هذا الخليفة في نفسه أن يختار أحد أصحابه ليجعله والياً على أحد الأقاليم ، وهذا الصحابي لو صبر بضع ساعات لاستدعاه عمر ليقلده المنصب الذي رشحه له، ولكن هذا الصحابي بادر الأمور قبل أن تقع, وذهب إلى أمير المؤمنين يسأله أن يوليه الإمارة، وهو نفسه الذي وقع عليه اختيار عمر، ويبتسم عمر لحكمة المقادير, ويفكِّر قليلاً ثم يقول لصاحبه: "قد كنا أردناك لذلك، ولكن من يطلب هذا الأمر لا يعان عليه، ولا يجاب إليه، ثم صرفه وولَّى " .

     مرةً يقول لأحد ولاته: "لم أستعملك على دماء المسلمين، ولا على أعراضهم، ولكني استعملتك لتقيم فيهم الصلاة، وتقسم بينهم، وتحكم فيهم بالعدل، ثم يعدُّ له عداً النواهي التي عليه أن يتجنبها، لا تركب دابةً مطهمةً، ولا تلبس ثوباً رقيقاً، ولا تأكل طعاماً رافهاً، ولا تغلق بابك دون حوائج الناس" هذه كانت توجيهاته للولاة .

     مرةً قال لأخوانه: "دلوني على رجلٍ أَكِل إليه أمراً يهمني, فقالوا: فلان, فقال: ليس لنا فيه حاجة, قالوا: فمن تريد إذاً؟ قال: أريد رجلاً إذا كان في القوم وليس أميراً لهم بدا وكأنه أميرهم “ من شدة حرصه ورحمته، من شدة انتمائه لهم، من شدة غيرته عليهم . سيدنا النبي عليه الصلاة والسلام لما كان مع أصحابه في سفر, وأرادوا أن يعالجوا شاةً لمأكلة, قال بعضهم: علي ذبحها، وقال آخر: علي سلخها، وقال الثالث: علي طبخها، فقال عليه الصلاة والسلام: وعلي جمع الحطب، فلما قيل له: يا نبي الله نكفيك ذلك, قال: أعرف ذلك، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه".  وكان يقول: "لا تقوموا لي كما يقوم الأعاجم لملوكهم يعظِّم بعضهم بعضا " .

     سيدنا عمرو بن العاص كان والياً على مصر، وقد سمع هذه المقالة بأذنه، فقال: “يا أمير المؤمنين, أرأيت إن كان رجلٌ من المسلمين والياً على رعية، فأدب بعضهم، أتقتص منه؟ فقال عمر: والذي نفسي بيده لأفعلن، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتص من نفسه ، ألم يقل قبل أن يتوفاه الله : من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليقتدْ منه، من كنت أخذت له مالاً فهذا مالي فليأخذْ منه، مَن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي" . 

     فما أراد من الولاة أن يكون لهم مظهر، مرةً قال لواحد منهم: "بلغني أنه قد فشت لك فاشية “, أصبحت لك هيئةٌ في ملبسك ومسكنك ومطعمك ومركبك ليست لعامة المسلمين, ”احذر يا عبد الله, أن تكون كالدابة مرت بواد خصب، فجعلت همها في السمن, وفي السمن حتفها ".

     محمد بن سلمة يدخل على سيدنا عمر, ورفع له أمرًا أنّ ابن سيدنا عمرو بن العاص ضرب رجلاً في مصر لأنه سبقه، قال: أرسل أمير المؤمنين يدعو عمرو بن العاص وابنه محمداً، وَلْنَدَعْ أنس بن مالك يروي لنا النبأ كما شهده، ورآه بعينيه، قال: "فو الله إنا لجلوس عند عمر وإذا عمرو بن العاص يقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يتلفت باحثاً عن ابنه محمد، فإذا هو خلف أبيه ، فقال سيدنا عمر: أين المصري؟ فقال المصري: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين، قال عمر: خذ الدُرة واضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه, قال: ونحن نشتهي أن نضربه (الصحابة)، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول : اضرب اضرب ابن الأكرمين، ثم أشار عمر إلى العصا, وقال: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، لو لم يكن ابنه لما ضربك، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت وضربت من ضربني، قال عمر: أما والله لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، ثم التفت إلى عمرو، وقال: يا عمرو متى استعبَدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ". 

     وهذا فعله سيدنا عمر مع ابنِه، حينما رأى إبلاً سمينة، قال: "لمن هذه؟ قالوا: هي لابنك عبد الله، قال: ائتوني به، فلما جيء به, قال: لمن هذه الإبل ؟ قال: هي إبلي، اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن, فماذا صنعت؟ قال: ويقول الناس ارعوا هذه الإبل، فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين, لماذا سمنت؟ لأنك ابني, قال له: بِع هذه الإبل, وخذ رأس مالك, ورد الباقي لبيت مال المسلمين ".

     مرة تلقى شكوى ضد والٍ من ولاته، اسمه سعيد بن عامر الجُمَحي، استدعاه عمر، وواجهه بالشاكين، وقال لهم: تكلموا، قالوا: لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار، فقال الوالي: والله يا أمير المؤمنين, إني كنت أكره أن أذكر السبب، ليس لأهلي خادم فأنا أعجن لهم عجينهم، ثم أجلس حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج إليهم، فأشرقت ملامح عمر، قال: السؤال الثاني، قالوا: لا يجيب أحداً بليل، قال: والله إني كنت أكره ذكر ذلك، إني جعلت النهار لهم، والليل لي، فقال: اسألوه السؤال الثالث، قال: إن له في الشهر يوماً لا يقابل فيه أحداً، قال سعيد: ليس لي خادم يغسل ثيابي، ففي هذا اليوم أغسلها، وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم آخر النهار"، سيدنا عمر ملأ قلبه السرور والغبطة، بأن هذا الوالي على شاكلته، وقد أعطى الأجوبة الكافية .

     أحد الولاة حمـل إليه مرة مالاً وفيراً من أحد الأقاليم، فسأل عن مصدره, وعن سر وفرته وكثرته، فلما علم أنه من الزكاة التي يدفعها المسلمون، ومن الجزية التي يدفعها أهل الكتاب قال: إني لأظنكم قد أهلكتم الناس . فقالوا: لا والله ما أخذنا إلا صفواً عفواً,  يعني بشكل طبيعي . قال: بلا سوط .  قالوا: نعم . عندئذٍ سُر، فقال: الحمد لله الذي لم يجعل ذلك عليّ، ولا في سلطاني ".

     الخطبة التي ألقاها حينما تولى الإمارة, قال: “أيها الناس, خمس خصال خذوني بهن: لكم علي ألاّ آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه، ولكم عليَّ ألا أنفقه إلا بحقه، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا”. هكذا أخذ عمر نفسه بهذه القواعد، وأعلنها للناس صريحة, وقال: خذوني بها وحاسبوني عليها. 



المصدر: الخلفاء الراشدين : سيدنا عمر بن الخطاب 4 - تقشفه وحرصه على سلوك ولاته