بحث

عمر بن الخطاب5 روح تتجرد للحق

عمر بن الخطاب5 روح تتجرد للحق

بسم الله الرحمن الرحيم

     كان رضي الله عنه يقبل كلمة الحق, ولو كانت من أقل الناس عنده، فله مقال مشهور: "كلمة الحق، لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها",  هذا الخليفة الراشد يرى أن الحق فوق الجميع .

     فسيدنا عمر رضي الله عنه, يقول: "لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، قولوا الرأي الذي تحسبونه يوافق الحق مرةً كان مع أصحابه فأراد أحدهم أن يقول قولاً يوافق هوى سيدنا عمر، قال له:  والله يا أمير المؤمنين, ما رأينا أفضل منك بعد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فانتفض هذا الصحابي الجليل، وكأنَّه وجهت إليه تهمة، ونظر في أصحابه واحداً واحداً، وأحدَّ فيهم النظر، إلى أن قال أحدهم مستدركاً: لا والله لقد رأينا من هو خيرٌ منك, قال: ومن هو؟, فقال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه, فقال هذا الصحابي الجليل: كذبتم جميعاً حينما سكتم، وصدق هذا .

     مرةً خشي هذا الخليفة العظيم أن يجامله الناس على حساب دينهم, وهو يخاف على نفسه أن يصدِّقهم، لذلك جمع علية القوم ونخبة أصحابه, وقال لهم: إني دعوتكم لتشاركوني أمانة ما حملت من أموركم، فإني واحدٌ كأحدكم، وأنتم اليوم تقرُّون بالحق، خالفني من خالفني، ووافقني من وافقني، ولست أريد أن تتبعوا هواي، فمعكم من الله كتابٌ ينطق بالحق، فوالله لئن كنت نطقت بأمرٍ أريده فما أريد به إلا الحق، أي أنكم معكم مقياس، وهو كتاب الله، وسنة نبيّكم، وإياكم أن تنطقوا بكلامٍ وفق هواي، تحرّوا الحق ولا تأخذكم في الله لومة لائم . الله سبحانه وتعالى أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يستشير أصحابه, قال: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ كما أن الله سبحانه وتعالى وصف المؤمنين, فقال: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ نحن كمسلمين يجب علينا أن نستشير في كل أمر، لأنه من استشار الرجال استعار عقولهم، كما قال عليه الصلاة السلام: "تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا ضال " . 

     فسيدنا عمر حينما تسلَّم الأمر خاف الناس شدَّته وبأسه، سيدنا عمر كان شديداً، شديداً في أمر الله عزَّ وجل، فحينما تهامس الناس خائفين وجلين من تولّي هذا الخليفة الشديد الأمر, دخل عليه حُذيْفة فوجده مهموم النفس، باكي العين، فقال له: ما الذي يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال عمر رضي الله عنه: إني أخاف أن أُخطئ فلا يردني أحدٌ منكم تعظيماً لي، فقال حذيفة: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لرددناك إليه، عندئذٍ فرح عمر وتألَّق وجهه, وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوّمونني إذا اعوججت .

     مرةً صعد المنبر ليحدِّث المسلمين في أمرٍ جليل، فقد حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وقال: أيها المسلمون اسمعوا يرحمكم الله، ولكن أحد المسلمين نهض, وقال: واللهِ لا نسمع، واللهِ لا نسمع ، فسأله عمر في لهفة: ولمَ يا سلمان؟, فيجيب سلمان: ميَّزت نفسك علينا في الدنيا، أعطيت كلاً منا بردةً واحدة، وأخذت أنت بردتين، سيدنا عمر ينظر في المصلِّين، ويجيل الطرف فيهم إلى أن يرى ابنه عبد الله، ويقول: أين عبد الله بن عمر؟, فنهض عبد الله، وقال له: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين، فسأله عمر على الملأ: من صاحب البردة الثانية؟, فيجيب عبد الله: أنا يا أمير المؤمنين، ويخاطب عمر سلمان والناس معه: إنني كما تعلمون رجل طويل، ولقد جاءت بردتي قصيرة، فأعطاني عبد الله بردته، فأطلت بها بردتي، فيقول سلمان الذي اعترض, وفي عينيه دموع الغبطة والثقة: الحمد لله، والآن نسمع، ونطيع يا أمير المؤمنين.

     بينما هو جالس مع أخوانه، إذ برجل يشقّ الصفوف، ثائر، ملء قبضته شعر محلوق، ولا يكاد يبلغ عمر حتى يقذف بالشعر أمامه في مرارةٍ واحتجاج، ويموج الناس بالغضب ويهم به بعضهم، فيومئ عمر إلى أصحابه أن يسكنوا، ويجمع الشعر بيده، ويشير للرجل أن اجلس، وينتظر عليه عمر حتى يهدأ روعه, ثم يقول له: ما أمرك يا رجل؟، فيجيب الرجل: أما والله لولا النار يا عمر, فيقول عمر: صدقت، والله لولا النار، ما أمرك يا أخا العرب؟، يقصُّ هذا الرجل على عمر شكواه، وفحواها أن أبا موسى الأشعري أنزل به عقوبةً لا يستحقُّها، فجلده، وحلق شعر رأسه بالموسى، فجمع الرجل شعر رأسه، وجاء به إلى عمر، فينظر عمر إلى وجوه أصحابه، ويقول: لأن يكون الناس كلُّهم في قوة هذا أحبَّ إليَّ من جميع ما أفاء الله علينا، ثم يكتب لأبي موسى الأشعري يأمره أن يُمَكِّن الرجل من القِصاص منه جلداً بجلدٍ، وحلقاً بحلقٍ .

     مرةً كان على المنبر، واجتهد اجتهاداً، ولم ينتبه رضي الله عنه إلى آيةٍ في كتاب الله، قال: “أيها الناس، لا تزيدوا مهورَ النساء على أربعين أوقية، فمن زاد ألْقَيت الزيادة في بيت المال، فنهضت من بين أواخر الصفوف امرأة, وقالت: ليس هذا لك يا عمر، لا تستطيع أن تفعل هذا، فيسألها: ولمَ؟ فتجيبه بأن الله تعالى يقول: ﴿وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾ يتألَّق وجه هذا الخليفة العظيم ويبتسم, ويقول عبارته الشهيرة: أصابت امرأة وأخطأ عمر". هذه الروح السمحة، هذه الروح التي تجعل من نفسها في سوية كل الناس، فهذه ثمرة من ثمار الإيمان التي كانت بادية في سيدنا عمر رضي الله عنه. مقولته الشهيرة التي ذهبت مضرب المثل، والتي أعلنت حقوق الإنسان قبل أن تعلن في فرنسا بألف عام، قال: متى استعبدتم الناس وقد ولدتم أمهاتهم أحراراً . إذا أنت لم تشعر أنك واحد من الناس, ولا حقَّ لك أن تستعلي عليهم, ولا أن تستذلهم، ولا أن تأخذ منهم ما ليس لك، ولا أن تستخدمهم، إن لم تنطلق هذا المنطلق ففي الإيمان والله ضعف، لا أقول: ليس فيك إيمان، ولكن في إيمانكَ ضعف .لا يوجد إنسان على وجه الأرض يحقّ له أن يرى نفسه متميّزاً على أقرانه، والنبي كان قدوةً لنا في هذا، فعندما كان مع أصحابه في سفر, وأرادوا أن يعالجوا شاةً لمأكلة، قال أحدهم: "عليَّ ذبحها، وقال الثاني: عليَّ سلخها، وقال الثالث: عليَّ طبخها، فقال النبي عليـه الصلاة والسلام: وعليَّ جمع الحطب“ واختار أصعب عمل وأشقه، فلما قال له أصحابه: ”نكفيك ذلك يا رسول الله, قال: أعرف أنكم تكفونني، ولكن الله يكره أن يرى عبده متميزاً على أقرانه" . 

     سيدنا عمـر يريد أن يوسِّع هذا المسجد، لأنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام في حياته أنه كان يرغب في توسعته، لقي العباس يوماً, فقال له: يا عباس لقد سمعت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قبل موته يريد أن يزيد في المسجد، وإن دارك قريبة من المسجد، فاعطنا إيّاها نزدها فيه، وأقطع لك أوسع منها مع التعويض، فقال له العباس: لا أفعل، قال عمر: إذاً أغلبك عليها ، أنا صاحب السلطة ، فأصدر لها أمرَ استملاك، فأجابه العباس : ليس ذلك لك، فاجعل بيني وبينك من يقضي بالحق ، فقال عمر: من تختار؟ , قال العباس: حذيفة بن اليمان، وبدلاً أن يستدعي سيدنا عمر حذيفة إلى مجلسه، انتقل عمر والعباس إليه، لماذا؟ لأن القاضي يؤتى ولا يأتي، والعلم يؤتى ولا يأتي، هكذا الأدب، حذيفة الآن يمثل القضاء، وأحد الخصوم سيدنا عمر، خليفة المسلمين، وأمام حذيفة جلس عمر والعباس، وقصا عليه الخلاف الذي بينهما، فقال حذيفة: سمعت أن نبي الله داود عليه السلام أراد أن يزيد في بيت المقدس، فوجد بيتاً قريبـاً من المسجد، وكان هذا البيت ليتيم، فطلبه منه فأبى، فأراد داود أن يأخذه قهراً، فأوحى الله إليه أن أنزه البيوت عن الظلم هو بيتي، فعدل داود، وتركه لصاحبه ، فالعباس نظر إلى عمر، وقال: ألا تزال تريد أن تغلبني على ذلك؟ ، فقال له عمر: لا والله, فقال العباس: ومع هذا, فقد أعطيتك الدار تزيدها في مسجد رسول الله عليه الصلاة والسلام، أنا سوف أعطيها لك من عندي تبرعاً، أما أن تغلبني عليها فلا تستطيع، وحذيفة هو القاضي بيننا. عندما يكون الإنسان حرًّا, فإنه ينطلق في تعامله مع الناس من منطلق واقعي، منطلق إنساني، منطلق فيه عدل, وفيه إنصاف، وفيه حقوق، وفيه واجبات، والحياة أخذ وعطاء .



المصدر: الخلفاء الراشدين : سيدنا عمر بن الخطاب 5 - تواضعه وإصغاؤه للحق