جانب من جوانب شخصيته، ألا وهو تألق فهمه، وحدّة ذهنه، وصدق فراسته, فسيدنا عمر مثَّل شخصيَّته، أو جانبه الإدراكي بكلمةٍ رائعة، فقال: "لست بالخِب، ولا الخَبُّ يخدعني"، يعني ذكاؤه ليس شيطانياً، ولا عدوانياً، ولا استغلالياً، ولا انتهازياً، ولكنه ذكاء رحماني، فهو ليس من الغباء حيث يخدعه الخِب، وليس من الخُبث حيث يخدع، لا يَخْدَع ولا يُخْدَع، هذا الموقف المثالي.
السيدة عائشـة رضي الله عنها وصفته مرةً, فقالت: "كان والله أحوزياً, نسيج وحده، قد أعدَّ للأمور أقرانها" أي سريع الإدراك, حاد الخاطر، فالموفَّقون في الحياة، المتفوقون العقلاء الأفذاذ هم الذين يعدّون للأشياء أقرانها، للملمات ما يكافئها، للمستقبل ما يغطيه .
ويقول عنه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "كان عمر أعلمنا بكتاب الله, وأفقهنا في دين الله"، سيدنا عمر قمة المجتمع الإسلامي فهو حاكم، وفي الوقت نفسه كان أعلمنا بكتاب الله، وأفقهنا في دين الله، فهذا شيء رائع جداً، لأن طلب العلم فرض عينٍ على كل مسلم؛ طبيب، مهندس، مدير ناحية، محافظ، تاجر ، فنحن في الإسلام ليس عندنا طبقة رجال دين، نحن عندنا مسلم، "ما اتخذ الله ولياً جاهلاً، ولو اتخذه لعلَّمه" ، وكل واحد منكم يجب أن يكون ولياً لله، وتعريف الولي سهل جداً, قال تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ اتضح الأمر جلياً، اتق الله فأنت ولي.
أما النبي عليه الصلاة والسلام, قال: "إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبِه" ، هذه شهادة، إذا شهد لك النبي فهذه أعظم شهادة.
كان إدراكه عميقًا جداً, قال: "ما من أحدٍ عنده نعمة إلا وجدت له حاسداً، ولو كان المرء أقوم من القِدح لوجدت له غامزاً “، أي من المستحيل ألاّ يكون لك خصم, فأنت وطِّن نفسك وارتاح، فلا بدَّ لك من خصومة، لا بد لك من حُسَّاد، حتى إن سيدنا موسى في المناجاة, قال: ”يا ربي لا تبقي لي عدواً, قال له: هذه ليست لي يا موسى", أفتطمع ألاّ يكون لك أي عدو؟ هذا الطمع في غير محله، لك عدو ولك خصم, ولك حاسد ولك مبغضقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ فلما الإنسان يوطن نفسه على أن الحياةَ لا تخلو من مبغض، ومنافق ، وحاسد، وغيور، وطعَّان، ولعَّان، فنظرته واقعية .
قال: "أحبكم إلينا قبل أن نراكم أحسنكم سيرةً ", قال:" فإذا تكلمتم فأبينُكُم منطقاً", أي أحبكم إلينا إذا تكلمتم، كلام واضح، حجة قوية، تعليل دقيق، شاهد قوي، قال: "فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلاً" .
القصة المشهورة جداً عن سيدنا عمر، أنه طلب من شخص أن يأتي بمن يعرفه، قال له : "يا هذا إني لا أعرفك، ولا يضرك أني لا أعرفك, ائت بمن يعرفك، فجاءه بشخص قال له: هل تعرفه؟ قال له: نعم أعرفه، قال له: هل سافرت معه؟ قال له: لا، هل جاورته؟, قال له: لا، هل حاككته بالدرهم والدينار؟, قال له: لا، قال له: أنت لا تعرفه ", ولما جاءه رسول من القادسية يخبره أنَّ خلقًا كثيرًا مات فيها, قال له: من هم؟ قال له: إنك لا تعرفهم، فبكى عمر، وقال: وما ضرهم أني لا أعرفهم إذا كان الله يعرفهم "، فمن أنا ؟.
له رأي دقيق جداً، مرة سئل: أيهما أفضل ؛ رجل لا يأثم، لأن نفسه لا تشتهي الإثم، أم رجل تشتهي نفسه الإثم، ولا يأثم؟ فسيدنا عمر رأيه أنّ الذين يشتهون المعصية، ولا يعملون بها هم الأفضل, قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ معنى ذلك أن الإنسان إذا كان في ريعان الشباب، وعملُه في الأسواق، وغَضَّ بصره فهذا له أجر كبير، من السهل أن تعتزل الناس، وأن تقعد في بيت في رأس الجبل، ليس لك أية مخالفة، لكن أن يكون لك عمل في سوق تجاري, وتجمع في سلوكك الصِدْق والأمانة والاستقامة، فهذه بطولة، وهذه المجاهدة, ألم يقل النبي عليه الصلاة والسلام: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، جهاد النفس والهوى".
قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "بينما أنا نائمٌ إذ رأيت قدحاً، أوتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الريَّ يجري في أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب, فقال أصحاب النبي عليهم رضوان الله: فماذا أَوَلْتَه يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: العلم". لأنه غذاء الإنسان، هذا تأويل النبي للرؤيا التى رآها، أي أن عمر عالم .
مرة جاءه رجل يحمل بشرى، أو ظنها بشرى، قال له: رأيت فلاناً وفلانةً يتعانقان وراء النخيل، فيمسك عمر بتلابيبه، ويعلوه بمخفقته، ويقول له: هلا سترت عليه، ورجوت له التوبة ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال: " من ستر على أخيه, ستره الله في الدنيا والآخرة “. كان سيدنا عمر, يقول: ”هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أخاً لكم زلَّ زلةً فسددوه، كونوا عوناً له على الشيطان، ولا تكونوا عوناً للشيطان عليه", أنت وظيفتك أنْ تستر، وظيفتك أن تخفف عن المؤمنين، وظيفتك ألا تتبع عوراتهم .
له قول شهير: "لأن أُعَطِّل الحدود في الشبهات خيرٌ من أن أقيمها في الشبهات", فإذا كان حول السارق شبهة في سرقته، كأنْ سرق من مالٍ يظن أن له فيه حقاً فلا يجوز قطع يده، أو سرق من مال فيه شبهة فلا يجوز قطع يده فيه. فهي مقولة في القضاء مشهورة، الخطأ في العفو خير من الخطأ في الظلم، حكمنا على شخص ظلماً عشر سنوات، وهو بريء، فلو عفونا عنه خطأً لكانَ أهونَ مِن أن نحكم عليه خطأً.إنّ رجلاً له ابنة أصابت حداً من حدود الله، فحينما وقعت في هذه المعصية التي توجب الحد، أخذت شفرةً لتذبح نفسها، قال: فأدركناها، وقد قطعت بعض أوداجها فداويناها حتى برئت، ثم إنها تابـت بعدها توبةً حسنة، وهي اليوم تخطب إلى قوم، فسأل أخوها سيدَنا عمر: أفأخبرهم بالذي كان؟ فيجيبه عمر: أتعمد إلى ما ستره الله فتبديه؟ والله لئن أخبرت بها أحداً من الناس لأجعلنكم نكالاً لأهل الأمصار، اذهب وزوجها زواج العفيفة المسلمة .
مرة خرج في إحدى الليالي يتفقد أحوال أهل المدينة فسمع سيدةً تشكو بثها وحزنها، وتقول شعراً ثم قالت: أهكذا يهون على عمر وحشتنا وغيبة رجلنا عنا؟ سيدنا عمر بحث ودقق وحقق، فإذا هذه المرأة زوجها في الجهاد، وعند الصباح يذهب عمر إلى ابنته حفصة, ويسألها: يا بنيتي كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فتجيبه: تصبر شهراً وشهرين وثلاثة وينفد مع الشهر الرابع صبرها، فيسن من فوره قانوناً بأن لا يغيب في الجهاد جنديٌ متزوج أكثر من أربعة أشهر، ويرسل إلى زوج السيدة يستدعيه من فوره .
مع أن الاعتراف سيد الأدلة، لكن سيدنا عمر, قال مرة: ليس الرجل بمأمون على نفسه إن أجعته، أو أخفته، أو حبسته أن يقِر على نفسه زوراً, وهذا الإقرار لا قيمة له إطلاقاً . لذلك في المحاكمات الآن إذا قال الإنسان : أنا اعترفت تحت الضغط، يعد اعترافه باطلاً..
قد نأخذ المذنـب بذنبه، لكن أحياناً هناك خلفيات للذنب، ودوافع كبيرة، مرة جيء بغلمان صغار سرقوا ناقة رجل من مزينة، فلا يكاد يراهم صُفر الوجوه، ضامري الأجسام حتى يسأل: من سيد هؤلاء، فقالوا: فلان، قال: إلي به، فلما جاء سيدهم, قال: أنت سيد هؤلاء, قال: نعم, قال: كدت أنزل بهما العقاب لولا ما أعلمه من أنكم تؤدبونهم وتجيعونهم، لقد جاعوا فسرقوا، ولن ينزل العقاب إلا بك، ثم سأل صاحب الناقة: يا مزني كم تساوي ناقتك؟ قال: أربعمئة دينار، قال عمر: اذهب فأعطه ثمانمئة . أحياناً قد يرتكب الإنسان خطأ، لكن تحـت ضغط كبيـر، فلا ينبغـي للقاضي أن يتغافل عن الضغط الشديد، فقد يكون الأب مضطرًّا لإجراء عملية لابنه الذي على وشك الموت، ولم يعطه أحد، يقع في خطأ، والخطأ خطأ، لكن يجب أن يكون هناك أسباب مخففة، دوافع فطرية إنسانية .
له كلمة شهيرة: "لن يغير الذي وليت من خلافتي شيئاً من خلقي إنما العظمة لله وحده وليس للعباد منها شيء"، ولو كنت خليفة عليكم، إني عبدٌ من عبيد الله، ولن تغيِّر الخلافة أخلاقي أبداً، لأن العظمة لله وحده, وللعباد ليس لهم منها شيء، ما هذا الكلام؟ كأننا أمام أساطير .