الخليفة الراشد علي كرم الله وجه, هذا الإمام الفتى الذي كان أصغرَ مَن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم يومَ كان بمكة، وقبل الهجرة، له منبتٌ عتيد، له أبٌ اسمه أبو طالب وجدٌ اسمه عبد المطلب، وجميلٌ بنا أن نقف وقفتين عند هذين الأبوين لهذا الإمام الجليل، لأننا لو درسنا حياة هذين الأبوين لوجدنا, ماذا تعني كلمة الفطرة التي فُطِر الناس عليها؟ .
فهذا الأب الجليل أبو طالب والد سيدنا علي حينما كان على فراش الموت أوصاهم بهذه الوصية، يقول: "أوصيكم بتعظيم هذا البيت، فإن فيه مرضاة الرب، وقوام العيش، صِلُوا أرحامكم ولا تقطعوها، فإن صلة الرحم منسأة في الأجل، اتركوا البغي فقد أهلك القرون مِن قبلكم …", البغي هو العدوان، البغي هو تجاوز الحد، البغي هو الظلم، والظلم ظلماتٌ كما تعلمون ." …. يا معشر قريش أجيبوا الداعي، وأعطوا السائل، فإن فيهما شرفَ الحياة، وشرف الممات، عليكم بصدق الحديث، وأداء الأمانة، ألا وإني أوصيكم بمحمدٍ خيراً …. “, بالفطرة رأى فتى صادقاً أميناً يدعو إلى الخير، ما جرب عليه قومه كذباً قط . ”…. ألا وإني أوصيكم بمحمدٍ خيراً فإنه الأمين في قريش والصادق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاءنا بأمرٍ، قبله الجنان، وأنكره اللسان ….", القلب قَبِلَه ، لأن الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام مطابقٌ للفطرة، جاءنا بأمرٍ مطابقٍ للعقل، مطابقٍ للخير، مطابقٍ للحق, هذا حال قريش حينما تلقَّت دعوة النبي، قلبها قبل هذه الدعوة، ولسانها أنكر هذه الدعوة، مخافة أن تدع دين آبائها وأجدادها، و يخسر زعماؤها مراكزَهم, " …. وايم الله لكأني أنظر إلى صعاليك العرب وأهل الأطراف والمستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظَّموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، ولكأني به وقد محضته العرب ودادها، وأعطته قيادها والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يهتدي بهديه إلا سعد، ولو كان في العمر بقية لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي … “، ثم وضع عينيه على أهله الأقربين واختصهم بوصيةٍ أخرى، وقال لهم: ”… وأنتم يا معشر بني هاشم أجيبوا محمداً وصدقوه تفلحوا وترشدوا" . هذا كلام أبي طالب، هذا كلام الفطرة، هذا كلام العقل، توفي أبو طالب، وبقيت في خواطر سيدنا علي كلمات أبيه.
في أيام الدعوة الأولى رأى أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ولدَه علياً يصلي خفيةً وراء رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكانت هذه أول مرة يعلَم فيها أن ابنه الصغير السن قد اتبع محمداً، وما اضطرب الطفل حينما رأى أباه يبصره مصلياً، ولما أتم صلاته ذهب تلقاء والده, وقال له في صراحةٍ وثبات: "يا أبتِ لقد آمنتُ بالله وبرسوله، وصدقتُ ما جاء به واتبعته " , ماذا قال الأب؟ قال أبو طالب: “أما إنه لا يدعوك إلا إلى خير فألزمه”. مرةً ثانية رأى أبو طالب ابنه يصلي، فقد رأى النبي عليه الصلاة والسلام يصلي وقد وقف عليٌ كرم الله وجهه على يمينه، ولمح من بعيدٍ ولده جعفراً فناداه، حتى إذا اقترب منه قال له : "صِلْ جناح ابن عمك، وصلِّ عن يساره" .
فأبو طالب والد سيدنا علي كرم الله وجهه حينما تبيَّن له أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادقٌ، وحينما جاؤوه يطلبون منه أن يقنع ابن أخيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يكُفَّ عن دعوته لئلا يسفه آلهة قريش ويسفه أحلامها، فلما عرض على ابن أخيه, قال قولته الشهيرة: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه". عندئذٍ قال: "يا ابن أخي افعل ما بدا لك، واللهِ لن يصلوا إليك", وكان من أشد الذين حموا النبي صلى الله عليه وسلم .
وحينما توفي عم النبي أبو طالب بالغت قريش في إيذاء النبي، ونالت منه أشد النيل، وبعدها كان الإسراء والمعراج مسحاً لجراحات الماضي, حينما اشتدت وطأة المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم وجَّه لعمه تحيةً بعد موته يستحقها, قال: "ما نالت مني قريشٌ شيئاً أكرهه حتى مات أبو طالب“ . وقال مرةً يخاطبه بعد موته : ”يا عم ما أسرع ما وجدت فقدك " .
جد النبي عبد المطلب هو الذي حفر بئر زمزم بعد أن رُدم, وكان قد فجّر في عهد سيدنا إبراهيم عليه السلام وله قصةٌ مشهورةٌ تؤكِّد سلامة فطرة آبائه وأجداده، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال, قال عبد المطلب: "إني لنائم في الحجر إذ أتاني آت, فقال: احفر طيبة, قلت: وما طيبة؟ فذهب عني، فلما كان من الغد رجعت إلى مضجعي فنمت به فجاءني, فقال: احفر زمزم, فقلت: وما زمزم؟ قال: لا تنزف ولا تذم، تسقي الحجيج الأعظم عند قرية النمل, قال: فلما أبان له شأنها, ودل على موضعها, وعرف أن قد صدق غدا بمعول ومعه ابنه الحارث ليس له يومئذ غيره فحفر". وما كاد يطلع النهار حتى ذهبا يغوصان في الأرض بمعاولهما، فتفجرت مياه النبع المبارك الخالد، الذي هيَّأه الله سبحانه وتعالى ليكون سُقيًا لحجاج بيت الله الحرام, وموضوع زمزم موضوع يلفت النظر، كلُّ الأمطار التي تهطل بمكة وحوالي مكة لا تكفي لمدِّ مصادر هذا النبع، ولا يعلم إلا الله مصادر هذا النبع, ومهما كثر الحجاج فهم جميعاً يشربون من ماء زمزم، وله طعمٌ خاص، حتى إن الحجاج إذا توجهوا إلى المدينة المنورة يشربون من ماء زمزم، فكلُّ المياه هناك تنقل من نبع زمزم بالسيارات الكبيرة المخصصة لنقله .
حادثة الفيل، قال الله عزّ وجل: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ﴾، غزا أبرهة مكة ليهدم الكعبة، وجاء في جيشٍ لجب لا طاقة لقريشٍ بمقاومته، وفزعت قريش إلى شيخها وزعيمها عبد المطلب تسأله الرأي، وقد أدرك عجز قومه عن مجابهة الجيش الزاحف، فأمرهم أن يحملوا نساءهم وأطفالهم ومتاعهم ويغادروا مكة إلى شغاف الجبال، تاركين البلد الحرام مدينةً مفتوحةً يتولى ربُّ البيت حراستها، أما إذا حاول الجيش المقتحم أن يتسور الجبال وراءهم ليعتدي على أعراضهم فليسقطوا جميعاً صرعى قبل أن تُمَسَّ أعراضهم بسوء، والموقف نفسُه وقفه من أبرهة عندما طلب أن يتحدَّث إلى زعيم قريش، فذهب إليه عبد المطلب، وهنا ألقى على مسامعه كلمته المأثورة، حين سأله عن إبلٍ له، قال: “أما تخشى أن يهدم هذا البيت؟ قال: أمّا الإبل فهي لي، وأما البيت فله ربٌ يحميه”. حينما علم عبد المطلب خطورة الأمر وعزم أبرهة على هدم الكعبة، توجه إلى بيت الله الحرام فوراً, وأخذ بحلقتي باب الكعبة وناجى الله سبحانه وتعالى في إيمانٍ عجيب، وقال: "اللهم إن المرء يمنع رحله فامنع رِحالك، إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمرٌ ما بدا لك" .
وعبد المطلب هذا جد النبي عليه الصلاة والسلام, حينما بُشِّر بمولد النبي حفيده محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حمل الوليد فوق ذراعيه وصدره وذهب مسرعاً به إلى الكعبة، حيث صلى صلاة الشكر. ومما يؤثر عن هذا الجد, جد النبي، أنه قال لأبي طالب عم النبي, وهو والد سيدنا علي: "يا أبا طالب سيكون لابني هذا شأنٌ فاحفظه، ولا تدع مكروهاً يصِل إليه ".
سيدنا علي كرم الله وجهه، وهو من الصحابة المرموقين كان ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان فتى يافعاً، أُوتي فصاحةً ما بعدها فصاحة، أُوتي بلاغةً ما بعدها بلاغة، أعلى كلامٍ على الإطلاق بعد كلام النبي صلى الله عليه وسلم هو كلام الإمام عليٍ كرم الله وجهه،كان يقول: "يا بُني العلم خيرٌ من المال لأن العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق، مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة " .
ومن أقول هذا الإمام الجليل: "فلينظرْ ناظرٌ بعقله أنّ الله أكرم محمداً أم أهانه؟ فإن قال : أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه، فلقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا" .
ومن أقول هذا الإمام الجليل: "يا بني ما خيرٌ بعده النار بخير، وما شرٌ بعده الجنة بشر ، وكل نعيمٍ دون الجنة محقور، وكل بلاءٍ دون النار عافية".
ومن أقوال هذا الإمام الجليل: قِوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالمٌ مستعملٌ علمه، وجاهلٌ لا يستنكف أن يتعلم، وغنيٌ لا يبخل بماله، وفقيرٌ لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيَّع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره" .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لِعَلِيٍّ: "أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ" .