بحث

علي بن أبي طالب4: قبسات من حكمه ومواعظه الجامعة

علي بن أبي طالب4: قبسات من حكمه ومواعظه الجامعة

بسم الله الرحمن الرحيم

     من حكم هذا الصحابي الجليل، يقول:  

     "صدر العاقل صندوق سره، والبشاشة حبالة المودة، والاحتمال قبر العيوب", ثلاث صفات. البشاشة حبالة المودة، الوجه الطلق، الوجه البشوش، هذا يسبب تأليف قلوب الناس لك، هذا يسبب اكتساب الأصدقاء، والاحتمال قبر العيوب. 

     "إذا أقبلت الدنيا على أحدٍ أعارته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه ، سلبته محاسن نفسه", فإذا وفّقك الله عزَّ وجل فكل مَن حولك في خدمتك، وإذا لم يوفقك فمحاسنُك وعقلك لا تنفعك، ومالك لا ينفعك، بل كل ما تملكه يتلاشى، لذلك فسر بعض المفسرين قول الله عزَّ وجل: ﴿أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِيأي إذا ألقى الله عليك محبته، أي ألقى حبك في قلوب الخلق, هذه من أعظم النعم. 

     "خالطوا الناس مخالطةً إن متم معها بكوا عليكم, وإن عشتم حنوا إليكم", بعض الناس قد يقبض يده، فأقرب الناس إليه يتمنى موته، وبعض الناسِ أحياناً يبسط يده، فأبعدُ الناس عنه يتمنى حياته، وشتان بين من يعيش بين أُناسٍ يفدونه بأرواحهم، وبين من يعيش مع أناسٍ ينتظرون موته. 

     "إذا قدرت على عدوك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه", موضوع الشكر مِن أرقى الأحوال، الشكر مستويات: أبسطها وأدناها أن تعرف أن هذه النعمة من الله. وأن يمتلئ قلبك امتناناً وحمداً لله. وأن ترد على هذه النعمة الجزيلة بخدمة الخلق . لذلك في اللحظة التي يستقر فيها الإيمان في القلب يعلن عن نفسه بحركةٍ نحو خدمة الخلق والدعوة إلى الحق .  

     "أعجز الناسِ مَن عجز عن اكتساب الأخوان، وأعجزُ منه مَن ضيَّع من ظفر به منهم", وسائل وأساليب كثيرة، وجهود جبارة، ومواقف ذكية جداً، إذا فعلتها اكتسبت ود أخيك، ولكن بطولتك لا في بلوغ قمة النجاح بل في البقاء في قمة النجاح. 

     "من ضيعه الأقرب أتيح له الأبعد", إنّ الله رحيم فيمتحن الناس، وأقرب الناس قد يتخلى عنك، فإذا كنت مع الله سخَّر لك أبعد الناس، لذلك قالوا: "إذا كان الله معك فمَن عليك، وإذا كان عليك فمَن معك؟"، كن مع الله ولا تبالي، فإذا رضي الله عنك سخَّر خصومك وأعداءك لخدمتك، وإذا تخلى الله عنك، تخلى عنك أقرب الناس إليك . 

      قال: "من جرى في عنان أمله عثر بأجله", حينمــا يفكر الإنسانُ تجـد خواطره تذهب عشرين سنة إلى الأمام، وأحياناً ثلاثين سنة، ولا يدري أن أجلّه بعد سنة واحدة، أما العاقل فإنه يجري في عنان أمله في الدار الآخرة، وينهض في الدنيا ليعمل صالحاً استعداداً لها . 

     يقول هذا الصحابي الجليل: "أقيلوا ذوي المروءات عثراتهم، فما يعثر منهم عاثرٌ إلا ويد الله بيده يرفعه" أي إن الله عزّ وجل وفيٌّ، فإذا كان لك ماضٍ طيِّب، إذا كانت لك استقامتك، وأعمالك الصالحة، ودعوتك إلى الله، ثم حدث خطأ أخذَ الله عزّ وجل بيدك ليؤدبك، ولكن الله عزّ وجل لا يتخلى عنك، وهذا من أجلِّ الطمأنينة. إذًا: فالله عزّ وجل في عليائه يأخذ بيدِ المؤمن إذا عثر، أفأنت لا تغفر له ؟ ولا ترحمه؟ ولا تعفو عنه؟.  

     قال: "قُرنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان، والفرصة تمر مرّ السحاب، فانتهزوا فرص الخير", إنّ في الإنسان صفتين وهما: صفة الحياء، وصفة الخجل، الحياء فضيلة لكن الخجل صفة مذمومة، فسيدنا علي أشار إلى أن الخجل أحياناً ترافقه الخيبة، استحى أن يطالب بحقه، هذا الحياء أوصله إلى الخيبة، وهذا الخجل نقله إلى الحرمان، والفرص تمرُ سريعاً ولا تتكرر، فانتهزوا فرص  الخير، فالأذكياء دائماً ينتهزون الفرص. 

     قال: "إن من كفارات الذنوب العظام إغاثة اللهفان، والتنفيس عن المكروب", أي إن إغاثة اللهفان مِن كفارات الذنوب العظام، فأنتم تسمعون أن امرأةً بغياً سقت كلباً يأكل الثرى من العطش فغفر الله لها، فاللهفان إذا أغثتَه غفر الله لك. 

     "ما أضمر أحدٌ شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه، وصفحات وجهه", ولحكمةٍ بالغة جعل الله صفحة الوجه مرآة النفس، فإنك ترى في الوجه المودة, وترى التسامح, وترى العفة, وترى الحقد, وترى الكراهية، كل ما يعتلج في النفس يطبع على صفحة الوجه, وكأن الوجه وجه النفس. 

     ويقول هذا الإمام الجليل: "أفضل الزهد إخفاء الزهد", الشيطان له وساوسُ لا تنقطع، فإذا صليت الليل, فلا تقل: صليت قيام الليل, أو تصدقت، فكلما أخفيت أعمالك الصالحة كان هذا عوناً لك على أن تستخدمها في الإقبال على الله .  

     قال: "إذا كنت في إدبارٍ، والموت في إقبالٍ، فما أسرع الملتقى"، إذا كان ثمّة مركبتان تتحركان باتجاهين متعاكسين، فما أسرع اللقاء ولو أنهما بطيئتان، فالإنسان يتقدم به السن، وهو في إدبارٍ عن الدنيا، والموت في إقبال فما أسرع المُلتقى، لذلك أخطر حدث في حياتنا هو نهاية العمُر، وختام العمل, قال تعالى: ﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾.

     ويقول هذا الصحابي الجليل: "الحذر الحذر فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر", اقترف المعاصي، وكسب المال الحرام، وتعامل بالربا، ونظر إلى ما لا يحل له, ثم يقول: لم يصِبْني مكروهٌ، لكنّ الإمـام قـال: الحذر الحذر فو الله لقد ستر حتى كأنه قد غفر، أي أن الله يرخي الحبل, لأنه لو عاقبك بعد المعصية, وأكرمك بعد الطاعة لأُلغي الاختيار, ودخلنا في الجبر والاضطرار 

     يقول هذا الصحابي الجليل: "فاعل الخير خيرٌ من الخير، وفاعل الشر شرٌ من الشر" هذا الذي ألقى على هيروشيما قنبلة ذرية سواء الذي ألقى, والذي أمر بإلقاء هذه القنبلـة، وها قد مضى عليها خمسون عامًا وأكثر، وآثارها انتهت، والبلدتان الآن قد عُمِرَتا، وتمتلئان بالناس، والقضية أصبحت في طِّي النسيان، هل يعفى صاحب الشر من العقاب؟ لا, يبقى الإثم الذي يعذَّب به في النار إلى أبد الآبدين، فالشر ينتهي بانتهاء العالم، والخير ينتهي بانتهاء العالم، ولكن ما الذي يبقى؟ يبقى فاعل الشر في جهنم وبئس المصير، وفاعل الخير في جناتٍ عرضها السموات والأرض.  

      قال: "مَن أطال الأمل أساء العمل"، ضعف اليقين والأمل آفتان خطيرتان تضعف الإنسان .   

    يقول لابنه الحسن: "يا بني احفظ عني أربعة وأربعة، لا يضرك ما عملتَ معهُن؛ إن أغنى الغنى العقل، وأكبر الفقر الحمق، وأوحش الوحشة العجب، وأكرم الحسب حسن الخلق". 

     قال: "من حذَّرك كمن بشَّرك "، أي إذا حذرك إنسان، وكان مخلصًا، فكأنما أكرمك، وبشرك بالنجاة .   

     قال: "فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها", أي إذا أنت وقفت موقفاً ذليلاً، وبذلت ماء وجهك أمام إنسان لئيم، ولو شعرت بكرامتك لآثرت أن تفوتك هذه الحاجة على أن تقف هذا الموقف . 

     وله قول مشهور: "والله والله مرتين, لحفر بئرين بإبرتين، وكنس أرض الحجاز في يومٍ عاصفٍ بريشتين، ونقل بحرين زاخرين بمنخلين، وغسل عبدين أسودين حتى يصيرا أبيضين، أهون عليّ من طلب حاجةٍ من لئيمٍ لوفاء دين". 

     قال: "لا تستحيِ من إعطاء القليل فإن الحرمان أقل منه" 

     قال: "إذا تم العقل قل الكلام"، الإنسان يزين كلامه, يتكلم فيغنم, أو يسكت فيسلم، هذا هو العقل. 

     قال: "من نصَّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلِّم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم" .  

     وقال: "كل معدودٍ منقضٍ، وكل متوقعٍ آت"، ما دام الشيء يُعدُّ فسوف ينتهي يومًا مِن الدهرِ. 

     ومن أروع ما قال في القضاء والقدر عندما سأله أحد السائلين: "أكان مسيرنا إلى الشام بقضاءٍ من الله وقدر؟ وبعد كلامٍ طويل, قال: ويحك لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراًً محتوماً، لو كان كذلك لبطُل الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد، إن الله تعالى أمر عباده تخيراً، ونهاهم تحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يُعْصَ مغلوباً، ولم يُطَعْ مكرهاً، ولم يرسل الأنبياء لعباً، ولم ينزل الكتاب للعبادِ عبثاً، ولا خلق السموات والأرض وما بينهما باطلاً، ذلك ظنُّ الذين كفروا، فويلٌ للذين كفروا من النار". 

      وكان سيدنا علي رضي الله عنه فَطِنًا، فمرة أثنى عليه أحدُهم، وكان منافقًا, فقال له: “أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك”.  

     قال: "من قال لا أدري فقد أفتى" إذا سألت واحدًا، وقال لك: لا أدري، فإن هذا عالم. 

     وقال هذا الصحابي الجليل: "إن هذه القلوب تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها طرائف الحكم"، أي إن للموجه الراقي الداعي أنْ يمرح ويمزح، فالمرح أحياناً يكون مفيد جداً يلين القلوب ويجدد النشاط، وعلى الإنسان أنْ يكون بسَّامًا ضحَّاكًا، وكان النبي يمزح مع أصحابه، ولا يمزح إلا حقاً . 



المصدر: الخلفاء الراشدين : سيدنا علي بن أبي طالب 4 - أمارته وحكمه