بحث

مصعب بن عمير: السفير الأول للإسلام.. قصة فتى أنيق غيّر وجه التاريخ

مصعب بن عمير: السفير الأول للإسلام.. قصة فتى أنيق غيّر وجه التاريخ

بسم الله الرحمن الرحيم

     سيدنا مصعب بن عمير، شاب من شباب مكة الذين يشار إليهم بالبنان، منحه الله وسامة ونجابة، لكن الذي كان يلفت نظر الناس إليه أناقته المتناهية، أثوابه الجميلة، رقة حاشيته. كان فتى ريان، مدللاً، منعماً، كان حديث حِسان مكة، لؤلؤة ندواتِها ومجالسها.  

     هذا الشاب الأنيق، الناعم، الذي حباه الله ببحبوحة الحياة و بأناقة المظهر، وبحسن الطلعة، هذا الشاب سمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف أنه جاء بالتوحيد؟ وكيف أنه دعا الناس إلى الإسلام؟ وكيف أنه مع أصحابه القلة الخُلّص؟ كانوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، هذا الصحابي، بدافع حب الحقيقة، بدافع رغبته الجامحة في معرفة شأن هذا النبي، توجه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي النبي عليه الصلاة والسلام ويبدو أن هذا الشاب ينطوي على حب للحقيقة، وإيثار للحق، فما إن رأى النبي عليه الصلاة والسلام حتى تجاوبت نفسه معه، وهفا قلبه إليه، ومد النبي عليه الصلاة والسلام يده ليصافحه ، وليمسح عن صدره آثار الجاهلية، وكانت لحظة إيمانٍ رائعةٍ سرت في أحناء هذا الصحابي الجليل، وأعلن إسلامه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم. لِهذا الصحابي أم اسمها خناس بنت مالك، تتمتع هذه الأم بقوة في شخصيتها فذة، يهابها أبناؤها إلى درجة الخوف، يأتمرون بأمرها بقوة سحرية, يخافون غضبها، يرجون رضاها، أقال مصعب حينما أسلم: لم يكن يخاف أحداً، ولا يخشى أحداً, ولا يحسب حساب أحدٍ إلا أمه، كيف سيواجه أمه بإسلامه؟ . 

     كما هي العادة فكر في كتمان إسلامه، وفي حالات استثنائية يجد من المناسب أن يكتم إيمانه، وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ﴾ فسيدنا مصعب رأى من المناسب أن يكتم إيمانه عن أمه، فظل يتردد على دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويجلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام, وهو قرير العين بإيمانه، لكنه تفادى غضب أمه بهذا الكتمان, هناك قاعدة: مهما حاولت أن تخفي شيئاً لا بد وأن يظهر. رجل اسمه عثمان بن طلحة، أبصر به وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم، هذا الرجل عثمان بن طلحة حينما رآه يدخل دار الأرقم، سابق الريح إلى أمه ليخبرها أن ابنك يتردد على دار الأرقم مقر النبي عليه الصلاة والسلام، حينما واجهته أمه ما استطاع أن ينكر الحقيقة، بل قرر أن يظهرها، وقف أمام أمه وعشيرته وأشراف مكة المتجمعين حوله يتلو عليهم في يقينٍ وثباتٍ القرآن الذي غسل قلبه, وغذّى فؤاده، وملأ جوانحه سعادة. همت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت لتلطمه، ما لبثت أن استرخت وترنحت أمام النور الذي زاده وسامة في وجهه. لكنها ما لبثت أن أخذته بعد أن تلا على قومه القرآن، لتحبسه في غرفة قصية من غرف البيت, وكأنها بسذاجة إذا حبسته كف عن متابعة النبي الكريم، وعن زيارته, ولكن كان حبسها له بلا جدوى . 

     بلغ سيدنا مصعباً أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة ، بطريقة أو بأخرى، فانسل من غرفته القصية التي حبسته أمه بها، ولحق بالقافلة، وهاجر مع من هاجر إلى الحبشة، وبعد أن أقام هناك ردحاً من الزمن، عاد والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام. فخرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما إن بصروا به، حتى حنوا رؤوسهم, وغضوا أبصارهم، وذرفت بعض عيونهم دمعاً شجياً, ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه، حيث كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرة وعطرة, تمّلى النبي الكريم به جيداً، تملّى مشهده بنظرات حكيمة شاكرة، محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة, وقال: ((لقد رأيت مصعباً هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله)).

     فمصعب بن عمير، من أسرة غنية جداً، ولو بقي على دين آبائه لعاش حياة ناعمة جداً، لكن لأنه أسلم والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم فقراء ضعفاء: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَاأي فقراء وهذا شأن كل نبي، كبراء القوم، أصحاب الغنى، هؤلاء غارقون في شهواتهم، أصحاب القوة غارقون في وجاهاتهم، لكن الضعاف يتبعونه، هؤلاء الضعاف سيغنيهم الله عز وجل, وهذه كلمة قالها النبي الكريم لعدي بن حاتم:((لعلك يا عدي، إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، من فقرهم، وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم, فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للمسلمين)) فالبطولة أن تكون مع الحق، وليكن ما يكون. قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾. حاولت أمه مرة ثانية أن تحبسه ولكنه أصر, فلما جرى نقاش بينه وبينها, قال لها: ((يا أمي, إني لك ناصح, وعليك شفوق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله, أجابته غاضبة مهتاجة: قسماً بالثواقب لا أدخل في دينك، فيزري برأيي ويضعف عقلي)) حينما أسلم وأصر على إسلامه، وترك دين آبائه، حرمه أهله من كل شيء، خرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة, وأصبح الفتى المتأنق المعطر لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب. 

     سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كان في أصحابه من هو أكبر من مصعب سناً، وأعلى شأناً، وأكثر جاهاً، وأقرب إلى النبي نسباً، لكن عليه الصلاة والسلام ندبه ليكون خليفة له في المدينة قبل أن يهاجر إليها. هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها جعل الله هداية كبار أصحابه من الأنصار على يديه. المدينة عن بكرة أبيها تخرج لاستقبال النبي و لم يلتقوا به من قبل، ولم يسمعوا كلامه، من الذي جلس بينهم، ودعاهم إلى الهدى، وقرأ عليهم القرآن، وحدثهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، بين لهم شمائله الشريف، عرفهم بربهم، بين كمال الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى, من هذا الذي كان يعمل ليلاً ونهاراً؟ سيدنا مصعب. فهذا الصحابي الجليل قال ذات يوم وهو يعظ الناس، وحوله هؤلاء الذين أحبوا الإسلام، وانشرحت صدورهم له، فاجأه أسيد بن حضير شاهراً حربته يتوهج غضباً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم، وقال له: ما جاء بكما إلى حينا؟ هو وأسعد بن زرارة، تسفهان ضعفاءنا، اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من المدينة, فقال له مصعب بلسان طيب: أولا تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره, فقال أسيد بن حضير وكان رجلاً عاقلاً: والله أنصفت ، فجلس وكان مصعب يتلو عليه القرآن فاستمع إلى القرآن، ودخل إلى قلبه، وشرح الله صدره، فقال أسيد: ما أحسن هذا القول وأصدقه! كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ فأرشدوه إلى ذلك. فسيدنا مصعب وفقه الله في دعوته، فلانت قلوب كبراء المدينة، فلما لانت قلوبهم وأسلموا معه، ودخلوا في هذا الدين العظيم، كل أتباعهم تبعوهم . 

     خاض هذا الصحابي الجليل معركة أحد, وحمل لواء من ألوية أجنحتها, وكلكم يعلم أنه لما جال المسلمون, واشتبكوا مع عدوهم, ثبت مصعب فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ وأخذ اللواء بيده اليسرى فضرب يده اليسرى فقطعها، وحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، وهو يقول: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه, واندق الرمح, ووقع مصعب, وسقط اللواء، ووقع شهيداً بل كان كوكباً بين الشهداء، قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ فهذا الصحابي الجليل حياته كلها دعوة إلى الله، حياته كلها جهاد، ثم مات شهيداً, فقد فاز. سيدنا مصعب قتل يوم أحد، ولم يجدوا له شيئاً ليكفن به إلا نمرة، يعني رداء خشن ، فكنا إذا وضعناها على رأسه، تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: ((اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر)) وقف النبي عليه الصلاة والسلام عند مصعب بن عمير، وعيناه تذرفان بالدموع، وقال: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾. ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها, وقال: ((يا مصعب, لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم ها أنت شَعِث الرأس في بردة، عندئذ قال عليه الصلاة والسلام: إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة) ) .



المصدر: الصحابة الكرام : 12 - سيدنا مصعب بن عمير