بحث

عبد الله بن عباس فتى فاق الكهول علماً وحكمة.. رباني الأمة وحَبرها

عبد الله بن عباس فتى فاق الكهول علماً وحكمة.. رباني الأمة وحَبرها

بسم الله الرحمن الرحيم

     هذا الصحابي الجليل مَلَكَ المجدَ من كل أطرافه، فقد اجتمع له مجد الصحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجد القرابة، فهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، ومجد العلم، فهو حبر هذه الأمة، وبحر علمها الزاخر، ومجد التُّقى، فقد كان صوَّاماً بالنهار، قواماً بالليل، مستغفراً بالأسحار، بكاءً من خشية الله، وبكاءُ الرحمة أعلى أنواع البكاء، والقلب القاسي أبعد القلوب عن البكاء، ومن لم يبكِ، أو لم يتباكَ فعنده خلل خطير، وعلامة إيمان المؤمنين, قال تعالى: ﴿وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾. الإيمان يشمل غذاء العقل وهو العلم، وغذاء القلب، وهو الذكر، أمّا غذاء الجسد فهو الطعام والشراب . 

     إنه عبد الله بن عباس، ربَّاني هذه الأمة، أعلمُها بكتاب الله، وأفقهُها بتأويله، وأقدرها على النفوذ إلى أغواره، وإدراك مراميه وأسراره . يكفيه شرفاً ما قاله فيه عليه الصلاة والسلام، فَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْخَلَاءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا, قَالَ: ((مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ, فَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ)). معنى التأويل، أي إدراكُ كلام الله عز وجل، وإدراكُ معانيه الدقيقة، ومراميه البعيدة، وإدراك أعماقه، وهذه نعمة كبرى من نعم الله عز وجل, وهذا النص وصف اللهُ به سيدنا يوسف عليه السلام, فقال: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾. و قال تعالى: ﴿ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آَتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ ﴾.

     صحابي جليل، حبر هذه الأمة، عَلَم من أعلامها، أعلمُها بكتاب الله، حينما توفي النبي عليه الصلاة والسلام ما كان سنه يزيد عن ثلاث عشرة سنة فقط، ومع ذلك فقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم ألفًا وستمائة وستين حديثًا، أثبتها البخاري ومسلم, وقد سمعها منه مشافهة. 

     لما وضعته أمه حملته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحنكه بريقه الشريف، فكان أول ما دخل جوفه ريقُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخلت معه التقوى والحكمة, قال تعالى: ﴿يُؤْتِى الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. ما إن حُلت تمائمه -يعني فكت أربطته- حتى لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ملازمة العين لأختها، فكان يُعدُّ له ماء الوضوء إذا همَّ أن يتوضأ، ويصلي خلف رسول الله إذا وقف للصلاة، ويكون رديفه على راحلته إذا عزم على السفر، حتى غدا كظله، يسير معه أنَّى سار، ويدور معه أنى دار، ومع ذلك كان هذا الصحابي الفتى الصغير يحمل بين جنبيه قلباً واعياً، وذهناً صافياً، وحافظة دونها كل آلات التسجيل، ذاكرة رائعة قوية جداً . 

     قال مرةً عن نفسه: ((همَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم للوضوء ذات مرة، فما أسرع أن أعددتُ له الماء، فَسُرَّ بما صنعت، ولما همَّ بالصلاة أشار إليّ أن أقف بإزائه، فوقفت خلفه ، فلما انتهت الصلاة مال عليَّ، وقال: ما منعك أن تكون بإزائي يا عبد الله؟ قلت: يا رسول الله، أنت أجلُّ في عيني، وأعزّ من أن أوازيك في الصلاة , -ما هذا الأدب؟  رفع النبي عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء, وقال: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ)) إنّ هذا شرف عظيم, لقد استجاب الله عز وجل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، فآتى الغلام الهاشمي الحكمة، ففاق بها أساطين الحكماء . 

     بعد أن توفي النبيُّ عليه الصلاة والسلام, يقول هذا الصحابي الجليل عن نفسه: ((كان إذا بلغني الحديث عند رجل من صحابة رسول الله أتيت باب بيته في وقت قيلولته، وتوّسدتُ ردائي عند عتبة داره، فيسفو عليّ الريح من التراب ما يسفو، ولو شئت أن أستأذن عليه لأذِن لي، وإنما كنت أفعل ذلك لأطيِّب نفسَه، فإذا خرج من بيته، ورآني على هذا الحال, قال: يا ابن عمِّ رسول الله, ما جاء بك؟ هلاَّ أرسلتَ إليَّ فآتيك؟ فأقول: أنا أحَقُّ بالمجيء إليك، فالعلم يؤتَى ولا يأتي )).  يقول النبي الكريم:  (( تواضعوا لمن تعلمون منه، وتواضعوا لمن تعلِّمونَه ، ولا تكونوا جبابرة العلماء)). حتى الصحابة الكرام دهشوا لأدب رسول الله، حتى قالوا متسائلين: ما هذا الأدب؟ قال : ((أدبني ربي فأحسن تأديبي)). ما رؤي مادًّا رجليه قط، اللهم صلِّ عليه، كان رقيقًا جداً، وكان يستحي كما تستحي العذراء في خدرها، وما واجه أحداً من أصحابه بما يكره. 

     هذا زيد بن ثابت، كاتب الوحي، ورأس أهل المدينة في القضاء والفقه والقراءة والفرائض، كما يروي ذلك عمار بن أبي عمار, أن زيد بن ثابت ركب يوما، فأخذ ابن عباس بركابه، فقال له: ((تنحَّ يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال له: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك؟ فأخرج يده، فقبَّلها، فقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا)). مجتمع المؤمنين مجتمع راقٍ جداً. 

     بلغ هذا الصحابي الجليل من علو القدر على حداثة سنه أن سيدنا عمر بن الخطاب إذا واجهته معضلة دعا جُلَّ الصحابة، ودعا معهم عبد الله بن عباس، فإذا حضر رفع منزلته وأدنى مجلسه، وقال له: لقد أعضل علينا أمراً أنت له ولأمثاله، وقال عنه: إنه  فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول . 

     من مواعظ هذا الصحابي الجليل، أنه كان يقول: ((يا صاحب الذنب, لا تأمن عاقبة ذنبك ، واعلم أن ما يتبع الذنب أعظمُ من الذنب نفسه، إن عدم استحيائك ممن على يمينك وعلى شمالك، وأنت تقترف الذنب لا يقلُّ عن الذنب، وإن ضحكَك عند الذنب، وأنت تدري، أو أنت لا تدري ما الله صانع بك أعظمُ من الذنب، وإن فرحَك بالذنب إذا ظفرت به أعظمُ من الذنب، وإن حزنَك على الذنب إن فاتك أعظمُ من الذنب, وإن خوفك من الريح إذا حركت سترك, وأنت ترتكب الذنب مع كونك لا تضطرب من نظر الله لك أعظم من الذنب, يا صاحب الذنب, استغفر لذنبك, ما كان بعد الذنب أعظم من الذنب نفسه)).

     هذا الصحابي الجيل عُمِّر إحدى وسبعين سنة، ملأ فيها الدنيا علماً وفهماً وحكمةً وتقى، فلما أتاه اليقينُ صلى عليه محمد بن الحنفية، والبقية الباقية من أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، وجلَّة التابعين، وفيما كانوا يوارونه التراب سمعوا قارئاً لم يروه يقرأ قوله تعالى: ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي﴾.

     هذا الصحابي الجليل نموذجٌ للصغار، إن طفلاً صغيراً لا يزيد عمره عن ثلاث عشرة سنة يروي عن رسول الله ألفاً وستمائة وستين حديثًا صحيحًا، هذا الصحابي الجليل كان مرجعًا لسيدنا عمر، وهو عملاق الإسلام. الإنسان قيمته بما يعلم، وقيمته بما يعمل، وأيُّ مقياس آخر لا قيمة له، وكما قيل: ابتغوا العزة عند الله، ابتغوا الرفعة عند الله, أيْ استعمل المقياس الذي يرفعك عند الله. 



المصدر: الصحابة الكرام : 49 - سيدنا عبد الله بن عباس