بحث

أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى القسطنطينية رحلة إيمان وجهاد

أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى القسطنطينية رحلة إيمان وجهاد

بسم الله الرحمن الرحيم

     إذا ذهبت إلى الحج، ورأيت الحجاج الأتراك، وكلهم يبتهلون إلى الله، ويدعون الله، فإنهم في صحيفة هؤلاء الصحابة الكرام الذين خرجوا من مكة المكرمة، ومن المدينة المنورة، لينشروا هذا الدين في الآفاق. سيدنا أبو أيوب الأنصاري أحد هؤلاء الصحابة الذين وصلوا إلى أقاصي الشمال، ودفن عند أسوار القسطنطينية, فهو الآن مدفون في أحد أحياء اسطنبول، حينما اتسعت اسطنبول شملت قبره رضي الله عنه وأرضاه, على كلٍ الإنسان يعمل في الحياة الدنيا أعمالاً كثيرة، لكن أرقى عمل له حينما ينشر الحق 

     هذا الصحابي الجليل آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي النبي إلى المدينة مهاجراً، فهو من الرعيل الأول الذين بايعوا النبي في بيعة العقبة الثانية. هؤلاء الأنصار الذين آمنوا بالنبي قبل أن يروه، وحينما جاء النبي إليهم، عبروا عن حبهم تعبيراً غريباً، عبروا عن شوقهم، عبروا عن إخلاصهم، اشرعوا له أبواب بيوتهم لينزل فيها أعز منزل.فكل صحابي، بل كل أنصاري، كان حلمه الأعظم أن ينزل النبي ضيفاً عنده، فهذا شرف ما بعده شرف، النبي عليه الصلاة والسلام بقي في قباء أربعة أيام ، وبنى فيها مسجداً هو أول مسجد بني في الإسلام، وبعد أن قضى النبي الكريم في قباء أربعة أيام ركب ناقته, وتوجه تلقاء يثرب, بين يثرب وبين قباء، يعني مسير ربع ساعة أو ثلث ساعة تقريباً. هذا المسجد، أمامه ساحة، وفي وسط هذه الساحة نصب عمود, وفوق العمود كرة من البلور مكتوب عليها طلع البدر علينا، سمعت هذا النشيد بالشام عشرات، بل مئات, بل ما يقترب من ألوف المرات، لكن ما شعرت بنشوة، ولا هزة انفعالية إلا حينما رأيت المكان الذي وقف فيه أصحاب النبي يستقبلونه عليه الصلاة والسلام، في هذا المكان وقفوا واستقبلوه، وقالوا: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع , فكانوا الأنصار يعترضون الناقة، ناقة رسول الله في مسيرها، ويقولون:  أقم عندنا يا رسول الله، أقم عندنا في العَدد والمنعة , نحن أقوياء, نحن رجال كثر، وعندنا أسلحة كافية، ونمنعك من عدوك. النبي وقف موقف حكيم جداً فالحكمة هي أحد مستلزمات القيادة, فقال: ((كلما اعترض هذه الناقة أسياد الأنصار, وقالوا: يا رسول الله, أقم عندنا في العَدد, والعُدد، والمنعة، يقول لهم: دعوها فإنها مأمورة، اتركوها فإنها مأمورة )) وقال: اللهم خر لي واختر لي. فالنبي الكريم علمنا القرعة، القرعة ما لها مشكلة، إذا جرى تنازع بين أفراد وهم بدرجة واحدة بالنسبة لك.  والناقة تمضي إلى غايتها تتبعها العيون وتحف بها القلوب، ويقول القائلون: هنيئاً لمن تقف عنده هذه الناقة، فإذا اقتربت من منزل فرح أهله، وما زالت هذه الناقة على حالها، والناس يمضون في إثرها, وهم يتلهفون شوقاً لمعرفة السعيد المحظوظ، حتى بلغت ساحة خلاء أمام بيت أبي أيوب الأنصاري . لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينزل عنها, حتى يثبت موقف الناقة، فما لبثت أن وثبت وانطلقت تمشي, والنبي عليه الصلاة والسلام مُرخٍ لها زمامها، ثم ما لبثت أن عادت ادراجها وبركت في مبركها الأول. القضية مركزه, والموقع اختاره الله عز وجل، وهذا الموقع ماذا أصبح الآن أصبح مقام رسول الله؟ والمسجد النبوي بني فيه، عندئذ غمرت الفرحة فؤاد أبي أيوب الأنصاري، وبادر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يرحب به، وحمل متاعه بين يديه وكأنما يحمل كنوز الدنيا كلها، ومضى إلى بيته، هذا الإنسان العظيم حلّ ضيفاً عنده . 

     أما منزل أبو أيوب الأنصاري، منزل متواضع، يتألف من طبقة فوقها علية، يعني غرفة صغيرة لكنها في الطبقة الثانية, فأخلى العلية من متاعه ومتاع أهله، لينزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن النبي عليه الصلاة والسلام رحمة بأصحابه آثر عليها الطبقة السفلى، لأن الطابق الأرضي أسهل للصحابة عند لقائه والقدوم إليه، فالباب خارجي والمنزل أرضي, وهذا فيه سهولة واضحة, فامتثل أبو أيوب لأمره, وأنزله حيث أمر.  

     ولما أقبل الليل، وأوى النبي صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، صعد أبو أيوب الأنصاري وزوجته إلى العلية، وما إن أغلقا عليهما بابهما حتى التفت أبو أيوب إلى زوجته, وقال: ((ويحك ماذا صنعنا بأنفسنا؟ أيكون النبي عليه الصلاة والسلام أسفل منا ، ونحن أعلى منه؟ أنمشي فوق رسول الله؟ أنصير بين النبي وبين الوحي، إنا إذاً لهالكون؟))، لم تسكن نفسهما بعض السكون إلا حينما انحاز إلى جانب العلية، الذي لا يقع فوق رسول الله، والتزاماه لا يبرحانه إلا ماشيين على الأطراف متباعدين عن الوسط، نام هو على طرف الحائط, وزوجته على الطرف الآخر, يعني ابتعدا عن مكان نوم النبي عليه الصلاة والسلام. فلما أصبح أبو أيوب، قال للنبي عليه الصلاة والسلام: ((يا رسول الله, والله ما أُغمض لنا جفن هذه الليلة، لا أنا ولا أم أيوب)) فقال عليه الصلاة والسلام: ((ومما ذلك يا أبا أيوب، فقال: ذكرت أني على ظهر بيت أنت تحته، وإني إذا تحركت تناثر عليك الغبار، فآذاك، ثم إني غدوت بينك وبين الوحي, فقال عليه الصلاة والسلام: هون عليك يا أبا أيوب، إنه أرفق بنا أن نكون في السفلي، لكثرة من يغشانا من الناس)). قال أبو أيوب: ((فامتثلت لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، إلى أن كانت ليلة باردة فانكسرت لنا جرة في العلية، ووقعت مشكلة, وأريق ماؤها في العلية, وكانت مشكلة كبيرة جداً، فقمت إلى الماء أنا وأم أيوب، وليس لدينا إلا قطيفة كُنّا نتخذها لحاف، وجعلنا ينشف بها الماء خوفاً من أن يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما كان الصباح، غدوت على النبي صلوات الله عليه, وقلت له: بأبي أنت وأمي إني أكره أن أكون فوقك، وأن تكون أسفل مني، ثم قصصت عليه خبر الجرة، وهكذا صار معنا البارحة، فاستجاب لي)) ما أحب أن يحرج أبا أيوب، ما أحب أن يحمله فوق طاقته فوقف موقفاً ليناً . 

     أقام النبي عليه الصلاة والسلام في بيت أبي أيوب نحواً من سبعة أشهر، حتى تم بناء مسجده في الأرض الخلاء، التي بركت فيها الناقة, فانتقل إلى الحجرات التي أقيمت حول المسجد له ولأزواجه، فغدا جاراً لأبي أيوب، فسيدنا أبو أيوب عاش مع النبي في بيت واحد، وعلى قرب شديد, فماذا فعل به هذا القرب الشديد؟ زاده حباً، زاده تعلقاً، زاده تعظيماً، زاده إكباراً لكماله. سيدنا أبو أيوب، بعد أن انتقل النبي إلى بيته المجاور للمسجد النبوي, وهو يرى أن كل سعادته بإكرام النبي، كل سعادته كانت أساسها، أن الله أكرمه بأن جعل النبي ضيفه، فهذا الخير كأنه انقطع، فأحبّ أن يستمر الخير فكان يعد له كل يوم طعاماً على الطريقة القديمة, و النبي الكريم, قال: ((أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل)).

     فمرة طرق النبي الكريم مع سيدنا الصديق وسيدنا عمر باب داره, يعني النبي جاع، وكان فقيراً، ولأن النبي قدوة للمؤمنين جميعاً إلى يوم القيامة, لابد من أن يذوق كل شيء، ولو أن النبي ما ذاق الجوع إطلاقاً، وما ذاق الفقر إطلاقاً، فلا يمكن أن يكون قدوة لنا .قال: ((أوذيت وما أوذي أحد مثلي، وخفت وما خاف أحد مثلي, ومضى علي ثلاثون يوماً، لم يدخل جوفي إلا ما يواريه إبط بلال)). فيبدو أن النبي لم يكن عنده طعام، فانطلق إلى بيت أبي أيوب، ماذا فعل أبو أيوب؟ كان يعمل في نخلٍ قريب، فأقبل يسرع, ويقول: ((مرحباً برسول الله, وبمن معه ، انطلق أبو أيوب إلى نخلة، فقطع منها عرقاً, فيه تمرٌ ورطبٌ وبسرٌ، البسر يعني تمر لم ينضج بعد ، فقال عليه الصلاة والسلام: ما أردت أن تقطع يا أبا أيوب، هلا جنيت لنا من ثمره ، قال: يا رسول الله, أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره, فكل ما تشتهي نفسك بسراً أو رطباً أو تمراً يا رسول الله، ولأذبحن لك أيضاً ، قال: إن ذبحت، فلا تذبحن ذات لبن ، فأخذ أبو أيوب جدياً، فذبحه، ثم قال لامرأته: اعجني واخبزي لنا, ثم أخذ نصف الجدي فطبخه، وعمد إلى النصف الآخر فشواه، فلما نضج الطعام، ووضع بين يدي النبي وصاحبيه، أخذ النبي قطعة من الجدي، وضعها في رغيفٍ, فقال: يا أبا أيوب, بادر بهذه القطعة إلى فاطمة, فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام ، فلما أكلوا وشبعوا, قال النبي عليه الصلاة والسلام: خبزٌ، ولحمٌ، وتمرٌ، وبسرٌ، ورطبٌ ، ودمعت عيناه)) فالنبي الكريم كانت تعظم عنده النعمة مهما دقت، ثم قال: ((والذي نفسي بيده، إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة فإذا شبعتم, فقولوا: الحمد لله الذي أشبعنا, وأنعم علينا فأفضل، ثم نهض النبي إلى أبي أيوب، وقال: ائتنا غداً لنكافئك)).

     سيدنا أبو أيوب عاش طوال حياته غازياً، حتى قيل: إنه لم يتخلف عن غزوة غزاها النبي أبداً، سيدنا أبو أيوب في عهد معاوية بن أبي سفيان، انخرط في جَيَّش جيشه معاوية لفتح بلاد الروم, كم كان عمره في ذاك الوقت؟ ثمانون عاماً, يبدو أنه أصابه مرض في هذه الغزوة، فخف إليه القائد، قال له: يا أبا أيوب, ما حاجتك؟ فطلب أبو أيوب الأنصاري منه إذا هو مات أن يُحمل جثمانه فوق فرسه, ويمضي به أطول مسافة ممكنة في أرض العدو، ويدفن هناك, ثم يزحف بجيشه على طول هذا الطريق، حتى يسمع أبو أيوب وهو في قبره وقع حوافر خيل المسلمين فوق قبره، عندئذ يدرك أنهم قد أدركوا ما يبتغون، من نصر وفوز، وهذه أمنيته . قبره في قلب القسطنطينية, وهي اليوم اسطنبول، وتضم جثمان هذا الرجل العظيم، أما الشيء الغريب، أنه قبل أن تفتح القسطنطينية, وتغدو اسطنبول كان الروم يتعاهدون قبره، ويزورنه، ويستسقون بقبره إذا قحطوا . 

    من أقوال سيدنا أبي أيوب: إذا صليت فصلّ صلاة مودع, إلزم اليأس مما في أيدي الناس، يحبك الناس، إياك وما يعتذر منه، ولا تطمع بما عند الناس , هذه كلها من نصائح هذا الصحابي الجليل، التي كان يأخذها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . 



المصدر: الصحابة الكرام : 14 - سيدنا أبو أيوب الأنصاري