الصحابي الجليل أبي هريرة رضي الله عنه، لقد كان الناس يدعون هذا الصحابي الجليل في الجاهلية عبد شمس, فلما أكرمه الله بالإسلام، وشرّفه بلقاء النبي عليه الصلاة والسلام, قال له: ((ما اسمك؟ قال: عبد شمس، فقال عليه الصلاة والسلام: عبد الرحمن، فقال: نعم، عبد الرحمن)). أمّا لماذا كان يكنى بأبي هريرة؟ فإنّ سبب ذلك كانت له هرة وهو صغير، يلعب بها، فلما اتصلت أسبابه بأسباب رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يناديه كثيراً بأبي هِرّ، إيناساً له وتحبباً، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رقيق لطيفًا، فجعل لدّاته أي أصدقاؤه ينادونه أبا هريرة، وشاع ذلك، وذاع حتى غلب على اسمه، ((كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا, وَكَانَ لِي أَخٌ, يُقَالُ لَهُ: أَبُو عُمَيْرٍ, قَالَ: أَحْسِبُهُ فَطِيمًا, وَكَانَ إِذَا جَاءَ, قَالَ: يَا أَبَا عُمَيْرٍ, مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ نُغَرٌ, كَانَ يَلْعَبُ بِهِ, فَرُبَّمَا حَضَرَ الصَّلَاةَ وَهـُوَ فِي بَيْتِنَـا, فَيَأْمُرُ بِالْبِسَاطِ الَّذِي تَحْتَهُ فَيُكْنَسُ وَيُنْضَحُ, ثُمَّ يَقُومُ وَنَقُومُ خَلْفَهُ فَيُصَلِّي بِنَا))، وكان يتحبب للسيدة عائشة, ويقول لها: (( يا عويش, مالي أراك أشرق وجهك )).
أسلم أبو هريرة على يد الطفيل بن عمرو الدوسي، وظل في أرض قومه دوس إلى ما بعد الهجرة بست سنين، حيث وفد مع جموع من قومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الصحابي الجليل انقطع لخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتخذ المسجد مقاماً، واتخذ النبي معلماً وإماماً، إذ لم يكن له في حياة النبي زوج ولا ولد، إلا أن هذا الصحابي كانت له أم عجوز أَصَرَّتْ على الشرك، فكان لا يفتأ أن يدعوها إلى الإسلام إشفاقًا عليها، وبراً بها، فتنفر منه, وتصده فيتركها, والحزن عليها يفري فؤاده فرياً. وفي ذات يومٍ دعاها إلى الإيمان بالله ورسوله، فقالت في النبي عليه الصلاة والسلام قولاً أحزنه، فمضى إلى النبي يبكي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((ما يبكيك يا أبا هريرة؟ فقال: إني كنت لا أفتر عن دعوة أمّي إلى الإسلام فتأبى عليّ, وقد دعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره, وقال للنبي عليه الصلاة والسلام: فادعُ الله جل وعز كي يميل قلبَ أم أبي هريرة للإسلام، فدعا لها النبي صلوات الله وسلامه عليه قال أبو هريرة: فمضيتُ إلى البيت، فإذا بالباب قد ردّ، وسمعت خضخضة الماء، فلما هممتُ بالدخول قالت أمي: مكانك يا أبا هريرة، ثم لبستْ ثوبها، وقالت: ادْخُل، فدخلتُ، فقالت: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فعدتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا أبكي من شدة الفرح قلت: أبشِرْ يا رسول الله، فقد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة إلى الإسلام)).
أحبَّ أبو هريرة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُبًّا خالط لحمَه ودمه، فكان لا يشبع من النظر إليه، ويقول: ((ما رأيت شيئاً أملح ولا أصلح من رسول الله، حتى ولكأن الشمس تجري في وجهه)). هذا الجمال الذي كان يتمتع به النبي، وأخواننا الحجاج الذين أكرمهم الله بالحج والعمرة والزيارة، إذا وصلوا إلى المدينة المنورة سيَرَوْن آثار هذا الجمال، فالقبة الخضراء لها منظر لا يُنْسِى, وكذا الحرم النبوي, ومقامه الشريف, والروضة, وآثار جماله في مقامه, وفي قبره .
كان هذا الصحابي الجليل يحمد الله تبارك وتعالى على أن مَنَّ عليه بصحبة النبي، واتِّباع دينه، الحمد لله الذي هدى أبا هريرة للإسلام، هذه أول نعمة، الحمد لله الذي علم أبا هريرة القرآن، الحمد لله الذي مَنَّ على أبي هريرة بصحبة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
سيدنا أبو هريرة أولع بالعلم، وجعله ديدنه، وغاية ما يتمناه، قال زيد بن ثابت: ((بينما أنا وأبو هريرة وصاحب لي في المسجد ندعو الله تعالى، ونذكره في المسجد، إذْ طلع علينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأقبل نحونا حتى جلس بيننا، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متواضعًا، فسكتنا إجلالاً له، فقال: عودوا إلى ما كنتم فيه، فدعوتُ اللهَ أنا وصاحبي قبل أبي هريرة، وجعل النبي يقول: آمين، ثم دعا أبو هريرة فقال: اللهم أسألك ما سألك صاحباي، وأسألك علماً لا يُنسى، فقال عليه الصلاة والسلام: آمين، يا أبا هريرة، فقلنا: ونحن نسأل الله علماً لا يُنسى، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبقكم بها الغلام الدوسي)). وكأن الله عز وجل أكرم أبا هريرة بعلم لا يُنسى، لذلك روى عن رسول الله خمسة آلاف حديث وستمئة، وأكثر الخطب والدروس والكتب, يقال فيها: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وذات يوم مرَّ بسوق المدينة فهاله انشغالُ الناس بالدنيا، واستغراقهم بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، فوقف عليهم، وقال: ((يا أهل المدينة ما أعجزكمّ! قالوا: وما رأيت من عجزنا يا أبا هريرة؟ قال: ميراث رسول الله يقسم، وأنتم هاهنا, قالوا: وأين هو؟ قال: هو في المسجد، فخرجوا سراعاً، ووقف أبو هريرة لهم حتى رجعوا، فلما رأوه قالوا: يا أبا هريرة، لقد أتينا المسجد، فدخلنا فيه فلم نرَ شيئًا يُقسَم، قال لهم: أوَ مَا رأيتم في المسجد أحداً؟ قالوا: بلى رأينا قوماً يصلون، وقومًا يقرؤون القرآن، وقوماً يتذاكرون في الحلال والحرام، قال: ويحكم هذا ميراث رسول الله)).
قال أبو هريرة: ((مرَّ بي رسول الله يوما، وكنتُ جائعًا، منقطعًا للعلم، فمرّ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف ما بي من الجوع، فقال أبا هريرة، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: اتبعني، فدخلتُ معه، فرأى قدحًا فيه لبن، فقال لأهله: من أين لكم هذا؟ قالوا: أرسل به فلان إليك ، قال: يا أبا هريرة, انطلق إلى أهل الصفة فادعُهم، وأطعمهم جميعاً من هذا اللبن)) هذه هي المشاركةُ الوجدانيةُ، هذه المشاركةُ تنسي همومَ الحياة، فإذا كنتَ تعيش بين أخوة طيبين يتعاطفون معك، يألمون لألمك، ويفرحون لفرحك، ويهبُّون لنجدتك، ويسرعون لإغاثتك، فهذا مجتمع مؤمن فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الْآخِرَةِ, وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُسْلِمٍ سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ, وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)) إذا أردتم رحمتي فارحموا خلقي .
سيدنا أبو هريرة بعد أن فُتحتْ البلاد، أكرمه الله عز وجل بمال وفير، فتزوج ، وأنجب أولاداً، وسكن بيتًا، مرة خاطب نفسه فقال: (( يا أبا هريرة، هاجرتَ مسكيناً، وكنتَ أجيراً لبثرة بنت غزوان ، بطعام بطني، فكنتُ أخدمُ القومَ إذا نزلوا، وأَحْدُو لهم إذا ركبوا، فزوَّجَنِيها الله، تزوج هذه المرأة ، والحمد لله الذي جعل الدين قياماً، وصيّر أبا هريرة إماماً )).
أصبحَ أبو هريرة واليًا على المدينة مِن قِبَل معاوية بن أبي سفيان أكثر من مرة، فلم تبدِّل الولايةُ من سماحة طبعه, وخفة ظلّه شيئًا, ولقد مرّ يومًا بأحد أسواق المدينة وهو والٍ عليها ، وكان يحمل الحطب لأهل بيته، فمرّ بثعلبة بن مالك، فقال له: (( أَوْسِعِ الطريق للأمير يا ابن مالك، فقال له ابن مالك: يرحمك الله، أما يكفيك هذا المجال كله، فقال له: أَوْسِع الطريق للأمير، وللحزمة التي على ظهر الأمير، أنا حجمي واسع، ومعي حزمةٌ، ولست منتبهاً، فقال له: أَوْسِعِ الطريق للأمير, قال له: يا سبحان الله !! ألا يكفيك هذا الطريق؟ قال له: أَوْسِعْ الطريق للأمير، وللحزمة التي على ظهر الأمير, ثم وسّع له ))، فهكذا يكون التواضع،
كان مع سماحة نفسه، ومع شدة علمه تقياً ورعاً، يصوم النهار، ويقوم ثلث الليل، ثم يوقظ زوجته، فتقوم ثلثه الثاني، ثم يوقظ ابنته فتقوم ثلثه الأخير، فهذا البيت فيه قيام ليل بشكل دائم . تقول ابنته له: (( يا أبتِ إن البنات يعيِّرْنَني, فيقلن: لمَ لا يحلِّيك أبوك بالذهب؟ فيقول أبو هريرة لابنته: قولي لهنّ يا بنيتي: إن أبي يخشى عليَّ حرَّ اللهب )). ولم يكن امتناع أبي هريرة عن تحلية ابنته ضنًّا بالمال، أو حرصاً عليه، إذ كان جواداً سخي اليد في سبيل الله . فبعث إليه مروان بن الحكم مئة دينار ذهباً، فلما كان الغد أرسل إليه يقول: (( إنّ خادمي غلط فأعطاك الدنانير، وأنا لم أردك بها، إنما أردتُ غيرك فسَقُط في يدي أبي هريرة، وقال: أخرجتها في سبيل الله، ولم يَبِتْ عندي منها دينار، فإذا خرج عطائي فخذها منه، لقد فعل مروانُ بن الحكم هذا ليختبره، فوجده صادقًا، وما ترك شيئًا من تلك الدنانير عنده )).
كان هذا الصحابي الجليل برًّا بأمِّه، وكان كلما أراد الخروج من البيت وقف على باب حجرتها, وقال: (( السلام عليك يا أماه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك السلام يا بني ورحمة الله وبركاته، ويقول: رحمك الله كما ربّيتني صغيراً، تقول: ورحمك الله كما بررتني كبيراً، ثم إذا عاد إلى بيته فعل مثل ذلك )) شيء جميل .
رأى مرة سيدنا أبو هريرة رجلين, أحدهما أسنُّ من الآخر، يمشيان معًا، فقال لصغيرهما: (( ما يكون هذا الرجل منك؟ قال: أبي, قال له: لا تسمِّه باسمه، ولا تمشِ أمامه ، ولا تجلس قبله )).
لما مرض أبو هريرة مرض الموت بكى، فقيل له: (( لِمَ تبكي يا أبا هريرة؟ فقال: أما إني لا أبكي على دنياكم هذه، ولكني أبكي لبعد السفر، وقلة الزاد، لقد وقفتُ في نهاية طريق يفضي إلى الجنة أو إلى النار، ولا أدري في أيّهما أكون)). وقد عاده بنفسه مروان بن الحكم، وكان خليفة، فقال له: ((شفاك الله يا أبا هريرة، فقال: اللهم إني أحبُّ لقاءك فأحبَّ لقائي، وعجِّل لي فيه، فما كاد مروان يغادر داره حتى فارق الحياة )).