الصحابي الجليل أبو عُبَيْدة عامر بن الجراح قال في حقِّه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: ((لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ))، هذا ال صحابِيٌّ الجليل حياته كلُّها متاعب يقود جُيوشاً قِيادةً لا أرْوَع ولا أعظم منها، يدْخُلُ عليه الخليفة عمر بن الخطاب فإذا غُرْفَتُه فيها قِدْر ماء، وجِلْدٌ قد ذهب ريشُهُ، ورَغيفُ خُبْزٍ قد غطى به قِدْر الماء، وسَيْفٌ مُعَلَّقٌ على الحائِط، سيِّدُنا عمر الزاهد المُتَقَشِّف فوجئ, أهذه غُرْفَة أمين الأُمّة وقائد الجيش؟ قال له: ما هذا يا أبا عُبيدة؟ قال: هو للدنيا، وهو على الدنيا كثير، ألا يُبَلِّغُنا المقيل. كلُّ الدنيا لو كانت بِيَد الإنسان, الدنيا بِأموالها وبُيوتِها ومُتَنَزَّهاتِها وقُصورِها ومرْكَباتِها وطائِراتها ونِسائِها, كُلُّ ما لذَّ وطاب فيها، لا تسْتطيعُ الدنيا بِأكْمَلِها أنْ تمْنح الإنسان سعادةً، وهؤلاء الصحابة الذين عاشوا حياةً مملوءةً بالشَّقاء فيما يبْدو, هِجْرةٌ اقتلعت الإنسانَ من جذوره، لقد هاجَرَ أبو عبيدة إلى الحَبَشَة وإلى المدينة، وشَهِد كلّ المشاهد، وكان أكبر مُدافِعٍ عن رسول الله حتى إنه نزع حلَقَةً غُرِسَتْ في وَجْنة النبي عليه الصلاة والسلام بِأسْنانه، فنزع الحلقة الأولى بِفَمِه فانْكسرت سِنُّهُ الأمامية، ونزع الحلقة الثانِيَة بِفَمِه فانكسرت سِنُّهُ الأخرى فصار أهتمَ، ومات بالطاعون، وهو أمين هذه الأمة، شَعَرْتُ أنَّ الله عز وجل إذا تجلى على قلب المؤمن بالرحمة أسْعَدَهُ سعادَةً لا توصَفُ. إذا اتَّصل الإنسانُ بالله أصْبح شيئاً آخر، يُمْكن أنْ يُلْغى عنده مع الاتِّصال بالله كلُّ شيء، قالوا في صفته:
كان وضيء الوجه، بَهِيَّ الطلْعَة، نحيل الجِسْم، طويل القامة، خفيف العارِضَيْن، ترْتاحُ العَيْنُ لِمَرْآه، وتأنَسُ النفْسُ بِلُقْياه، ويطْمَئِنّ الفؤاد إليه، وكان رقيق الحاشِيَة جمَّ التواضع، شديد الحياء لكنه كان إذا حزب الأمر، وجدَّ الجِدّ يغْدو كاللّيْث، لا يلْوي على شيء، رِقَّةٌ ما بعدها رِقَّة، وبهاءٌ ما بعده بهاء، إشْراقُ وجْهٍ ما بعده إشْراق .
قالوا: كان يُشْبِهُ نصْل السيْف، رَوْنَقاً وبهاءً، ويحْكيهِ حِدَّةً ومضاءً، إنه أبو عُبَيْدة بن الجراح. سيّدنا عبد الله بن عمر وَصَفهُ, فقال: ((ثلاثة من قريش أصبح الناس وُجوهاً، وأحْسنها أخلاقاً، وأثْبَتُها حياءً، إنْ حَدَّثوك لم يكْذِبوك، وإنْ حَدَّثْتهم لم يُكَذِّبوك, إنهم أبو بكرٍ الصديق، وعثمان بن عفان، وأبو عُبَيْدة ابن الجَراح)).
كان من السابقين السابقين، أسلم في اليوم الثاني لإسلام أبي بكرٍ رضي الله عنه، كان إسلامه على يد سيّدنا الصديق فَمَضى به وبِعَبْد الرحمن بن عَوْف وبِعُثمان بن مظعون وبِالأرقم بن أبي الأرقم إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فأعْلنوا على يدَيْه كلمة الحق، وكانوا القواعد الأولى التي أُقيم عليها صَرْحُ هذا الدِّين .
قدِمَ وفْد نصارى نجْران على النبي عليه الصلاة والسلام - هنا يطالعنا العجبُ حقًّا, فأنت كَمُؤمن مَوْثوق حتى من قِبَل خُصومك، موثوق في أمانتك، وعِفَّتِك، وصِدْقِك، وحِكْمَتِك، هذه علامة الإيمان، علامة الإيمان أنَّ المؤمن شَخْصِيَةٌ فذَّة، شَخْصِيَةٌ يرْتاح لها الإنسان ولو كان عَدُواً- فقالوا: ((يا أبا القاسم، اِبْعَث معنا رجلاً من أصْحابك تَرْضاهُ لنا لِيَحْكُم بيْننا في أشْياء من أموالنا اخْتَلَفْنا فيها، فإنكم عندنا معْشَر المُسْلمين مرْضِيون))، خُصوم المؤمنين من أهل الكتاب جاؤوا النبيَّ عليه الصلاة والسلام طالِبين منه أنْ يبْعث إليهم أحد أصْحابه لِيَحْكُم بينهم في خِلافاتٍ مالِيَّة، ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ (( قال: ائتوني العَشِيَّة أبْعَثْ معكم القَوِيَّ الأمين، يقول سيِّدُنا عمر: فَرُحْتُ إلى صلاة الظهر مُبَكِّراً، لعلَّني أنا القويُّ الأمين، وإني ما أحْبَبْتُ الإمارة حُبي إياها يومئِذٍ، فلما صلى بنا النبي عليه الصلاة والسلام جعل ينْظر عن يمينه وعن شِماله، فَجَعَلْتُ أتطاول لعلَّهُ يخْتارُني، ولعلَّني أنا القوِيُّ الأمين, فلم يزَل يُقَلِّبُ بصره فينا حتى رأى أبا عُبَيْدة بن الجراح, فقال: اُخْرُج معهم، فاقْضِ بينهم بالحق فيما اخْتَلفوا فيه، فقُلْتُ: والله ذهب بها أبو عُبَيْدة )).
سيِّدنا أبو عُبيدة بن الجراح بعثه النبي عليه الصلاة والسلام في جَمْعٍ من أصْحابه لِيَتَلَقَوا عيراً لِقُرَيْش، وأمَّره عليهم، وزوَّدَهُم جِراباً من تمْرٍ، ولم يَجِد لهم غيره، فكانَ أبو عُبَيْدة يُعْطي الرجل من أصْحابه كلَّ يومٍ تمْرة، فَيَمُصُّها الواحد منهم كما يمُصُّ الصَبِيُّ ضَرْعَ أُمِّه طوال النهار ، ثمّ يشْرب عليها ماءً، فكانت تكْفيه إلى الليل، هذا هو الطعام الخَشِن، طوال النهار تَمْرة، الذي لفتَ نظري أنَّ كلّ هذه الحياة الصعبة والشاقة وهذا الجِهاد وهذه الهِجْرة والمُكابدة والتضْحِيَة، وهذا الحرّ والقرّ جعلهم أسعد الناس، وكلُّ النعيم الذي نحْياه، وكُلُّ الرفاه وكلُّ هذه المواد التي بين أيْدينا من دون معْرفةٍ بالله هي عَيْنُ الشَّقاء، لِذلك اُطْلُبوا العِزَّة عند الله.
ويوم أُحُدٍ حينما هُزِم المسلمون، وطَفِق صائح المُشْركين يُنادي: دُلوني على محمد، كان أبو عُبَيْدة بن الجراح أحد النفر العَشَرة الذين أحاطوا بالنبي عليه الصلاة والسلام ليذودوا عنه بِصُدورِهم رِماح المُشْرِكين، فلما انْتَهَت المعْركة كان النبي عليه الصلاة والسلام قد كُسِرَت رُباعِيَّتُه، وشُجَّ جبينه، وغارَتْ في وَجْنَتِه حلْقتان من حلق دِرْعِه، فأقْبَلَ عليه الصديق يريد انْتَزاعهما من وَجْنَتَيْه صلى الله عليه وسلم، فقال له أبو عُبَيْدة: (( أُقسم عليك أنْ تترك ذلك لي، فَتَرَكَهُ، فَخَشِيَ أبو عُبَيْدة إنْ اِقتَلَعَهُما بِيَدِه أنْ يُؤذِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فَعَضَّ على أولاهما بِثَنِيَّتَيْه عضاً قوِياً مُحْكماً فاسْتَخْرَجَها، ووقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ، ثمَّ عضَّ على الأخرى بِثَنِيَّتِهِ الثانِيَة فاقْتَلَعَها، فَسَقَطَتْ ثَنِيَّتُهُ الثانِيَة، قال أبو بكرٍ: فكان أبو عٌبَيْدة من أحْسن الناس هتْماً )) الأهْتَم الذي كُسِرَت أسْنانه الأماميَّة, لقد كان في قلوبهم حبٌّ لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم . شَهِد أبو عُبَيْدة بن الجراح المشاهدَ كلَّها، وما تخَلَّف عن النبي إطْلاقاً .
نعود لعمر بن الخطاب إذْ قال لأبي عُبَيْدة: اُبْسُط يدَكَ أُبايِعْك، فإني سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, يقول : ((إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ)) قال أبو عُبَيْدة: ((ما كنتُ لأَتَقَدَّم بين يدي رجلٍ أمَّرهُ رسول الله علينا أنْ يؤُمَّنا في الصلاة، فأَمَّنا حتى مات))، وهو أبو بكر الصديق, فكان مع الصِّديق يده اليُمْنى، وما عصاهُ أبداً, هذا ما تربى عليه أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام .
كان أبو عُبَيْدة في الشام يقودُ جُيوشَ المُسلمين من نصْرٍ إلى نصْرٍ، حتى فَتَحَ الله على يَدَيْه الدِّيار الشامِيَّة كُلَّها, فَبَلَغَ الفُرات شَرْقاً وآسْيا الصغرى شمالاً، عند ذلك دهمَ بِلاد الشام طاعون ما عرف الناس مثله قطّ، فَجَعَل يحْصد الناس حصْداً، فما كان من عمر بن الخطاب إلا أنْ وَجَّهَ رسولاً لأبي عُبَيْدة بِرِسالةٍ، بلَّغ أبا عُبيدة وهو في الشام قائِدًا الجُيوش، فكتب إليه يقول: ((إني بَدَتْ لي إليك حاجة، لا غِنى لي عنك فيها، فإنْ أتاك كِتابي هذا، إنْ أتاكَ ليْلاً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُصْبِحُ حتى تَرْكَبَ إلَيَّ، وإنْ أتاك كِتابي نهاراً فإني أعْزِمُ عليك ألاَّ تُمْسي حتى ترْكَبَ إلَيَّ))، فَفَهِمَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة ما يريده عمر، واسْمَعوا ما قاله هذا الصحابيّ الجليل: (( قد علمتُ حاجة أمير المؤمنين إليّ، فَهُو يُريد أنْ يسْتَبْقي ما هو ليس بِبَاقٍ, ثمَّ كتب يقول: يا أمير المؤمنين, إني قد عَرَفْتُ حاجَتَك إلَيّ، وإني في جُنْدٍ من المُسْلمين، ولا أجد بِنَفْسي رَغْبَةً عن الذي يُصيبُهم)) فهو رضي الله عنه ما أراد أنْ يُغادر الجُيوش لِيَنْجُوَ وحْده من الطاعون، ويَهْلك الجُنْدُ هناك، (( ولا أريد فِراقهم حتى يَقْضِيَ الله فيَّ وفيهم أمره، فإذا أتاك كِتابي هذا فَحَلِّلْني من عزْمك، وأْذَنْ لي بالبَقاء)) فهو رضي الله عنه كَبُرَ عليه أنْ يأخذ ميزة على جُنوده، فلا بدَّ من أنْ يكونوا هناك لِيُدافِعوا ويفْتحوا، (( فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى فاضَتْ عَيْناه، فقال له مَن عنده من شِدَّة ما رأَوْهُ يبْكي: أمات أبو عُبَيْدة؟ قال: لا، ولكنَّ الموتَ قريبٌ منه)) كانَ رحيماً بِجُنوده، وأَبَتْ نفسه أنْ يمْتاز عليهم .
لما سيِّدُنا عمر عزل سيّدنا خالدًا وولَّى مكانه أبا عُبَيْدة، فالكِتاب جاء لِأبي عُبَيْدة، وكان خالدٌ رضي الله عنه يقود معْرَكَةً، فَكَتَمَ الخبر، وكتم الكِتاب، ولم يُبَلِّغ سيِّدنا خالدًا إلا بعد أنْ انْتَهتْ المعركة، وانْتَصَر المسلمون، فتَقَدَّم أبو عُبَيْدة القائِد المُعَيَّن من سيِّدِنا خالد القائِدُ المعْزول بِأدَبٍ جمٍّ ، وقدَّم له كِتاب التَّعْيين، فَسَيِّدُنا خالد رضي الله عنهم شعر بالحرج، وقال: ((يرْحَمُك الله أبا عُبَيْدة، ما منعك أنْ تُخْبِرني لمّا جاءَكَ الكِتاب؟ فأجابه أبو عُبَيْدة رضي الله عنه, وقال: والله إني كَرِهْتُ أنْ أكْسِرَ عليك حرْبَكَ، وما سُلْطانُ الدنيا نريد، ولا للدنيا نعمل، وكلنا في الله أخوة)).
يبْدو أنه حينما تسّلَّم الإمارة أبو عُبَيْدة ولمع نجْمُهُ وذاعَ صيتُهُ وحقَّقَ انتِصارات كبيرة، عَظَّمَهُ الناس وأكبروه وأجَلُّوه، فخاف على نفْسه أنْ يُصيبَها الغُرور، فقال: (( أيها الناس، إني مُسلمٌ من قُريش، وما منكم مِن أحدٍ أحمر ولا أسْود يفْضُلُني بِتَقْوى إلا وَدِدْتُ أني في إهابِهِ )) وهذا من تواضُعِه .
سيِّدُنا عمر يزور أبا عُبَيْدة بن الجراح، ويسْأل مُسْتَقْبِليه أين أخي؟ يقولون: من؟ يقول: أبو عُبَيْدة، فيأتي أبو عُبَيْدة فَيُعانِقُ أمير المؤمنين، ثمَّ يصْحبه إلى داره فلا يجد فيها من الأثاث شيئاً, سَيْفَهُ وتِرْسه ورَحْلَهُ وقِدْرَ ماءٍ مُغَطىً بِرَغيفِ خُبْزٍ، يسْأله عمر قائِلاً: ألا اتَّخَذْتَ لِنَفْسِك مثل ما يتَّخِذُ الناس, فقال له أبو عُبيدة: يا أمير المؤمنين, هذا يُبَلِّغُني المقيل, هو للدنيا, وهو على الدنيا كثير .
حينما وافَتْ المَنِيَّةُ أبا عُبَيْدة وهو يلْفِظُ أنْفاسَهُ الأخيرة أوْصى, فقال: (( أقيموا الصلاة أقيموا الصلاة، وصوموا رمضان، وتصَدَّقوا، وحُجُّوا، واعْتَمِروا، وتواصوا, وانْصحوا لأُمرائِكم ولا تغُشُّوهم، ولا تُلْهِكم الدنيا، فإنَّ المرء لو عُمِّر ألف حَوْلٍ ما كان له بُدٌّ من أن يصير إلى مصْرعي هذا الذي تَرَوْن )) وكان على فِراش الموت . اِلْتَفَتَ سيِّدُنا أبو عُبَيْدة إلى مُعاذ بن جبل ساعة احتضاره، وقال: (( يا مُعاذ، صلِّ بِالناس، ثمَّ ما أنْ لبِث حتى فاضَتْ روحُهُ الطاهِرة, فقال معاذ: يا أيها الناس, إنكم قد فُجِعْتُم بِرَجُلٍ، واللهِ ما أعلم أني رأيتُ رجُلاً أبرَّ صدْراً ولا أبعد غائِلَةً، ولا أشدَّ حُباً للعاقِبَة، ولا أنصح للعامَّة منهم فَتَرَحَّموا عليه يرْحَمْكم الله )).
كذلك لمّا سيدنا عمر بلغه خبر وفاة سيِّدنا أبي عُبَيْدة بن الجراح بَكى بُكاءً ما بكاهُ على أحدٍ من قبل حتى غُصَّ حلْقُهُ، وانْهَمَرَتْ دُموعه، وقال: (( لو كنت مُتَمَنِّياً ما تمَنَّيْتُ إلا بيْتاً مملوء بِرِجالٍ مثل أبي عُبَيْدة )).
