الزُّبَيْر بن العَوام، هذا الصحابي كما ترْوي أُمُّهُ صَفِيَّة بن عبد المُطَّلِب عَمَّةُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أسْلَمَتْ وأسْلم الزُّبير وهو ابن ثماني سنين، وقيل: ابن ست عشْرة سنة، فَعَذَّبه عمُّهُ بالدُّخان، لِكَي يتْرُك الإسلام فلم يفْعل، وهاجر إلى أرضِ الحَبَشَة الهِجْرَتين جميعاً، ولم يتَخَلَّف عن غزوةٍ غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلّم .
وهو أوَّل من سلَّ سيْفاً في سبيل الله، وكان عليه يوم بدْرٍ ريقةٌ صفْراء مُعْتَجِراً بها، أيْ قُماشٌ أصْفر لَفَّهُ على رأسه، وكان على مَيْمَنَة رسول الله، وثبت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، وبايَعَهُ على الموْت، وفي الحقيقة حين يبْذل الإنسان حياته في سبيل الله فقد بذل أثمن ما يَمْلكه، والجود بالنَّفْس أقْصى غاية الجود .
من أبْنائِهِ المشْهورين: عبد الله بن الزبير، هذا الذي رآه عمرُ مع صِبْيَةٍ يلْعبون فَتَفَرَّقوا جميعا إلا هو، فلما وصَلَ إليه, قال: (( يا غُلام لما لم تهْرُب مع من هرَبَ؟ قال: أيها الأمير, لسْتَ ظالِماً فأخْشى ظُلْمَك، ولَسْتُ مُذْنباً فأخْشى عِقابك، والطريق يَسَعُني ويَسَعُك )) .
إسلام هذا الصحابي الزبير بن العوام، كان رابِعاً أو خامِساً بعد إسْلام أبي بكرٍ، هؤلاء السابقون الأولون، والإنسانُ في ساعة العُسْرة إذا آمن فله حِسابٌ خاص، لذلك قال الله عز وجل: ﴿ لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ﴾ .
فالذي آمن مع النبي عليه الصلاة والسلام في أشدِّ حالات الضعْف والعُسْرة والضِّيق، والناسُ كلهم أعْداؤُهُ، وقُريش تكيد له، فهذا من ذوي البذل والتضحية، أما الذي يُسْلم بعد الفَتْح فالقَضِيِّة سهْلة، البطولة أن تؤمن بالحق وهو ضعيف، والله عز وجل قادر أن يجعل الأنبياء ملوكا، فإذا دعوا إليه انصاع الناس إليهم جميعا خوفا لا إيمانا ولكن لحكمة أرادها الله عز وجل جعل الأنبياء ضعافا، حيث إنك لو قلت عنه: إنه مجنون أو ساحر أو كاهن أو شاعر، فإنك تنام مساءً مطمئنّ البال، ولا شيء عليك, من أجل أن يكون مَن آمن به قد آمن به عن قناعة ما بعدها قناعة, وله أجرٌ عظيم، قال تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلَا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
عن سعيد بن المسيّب, قال: (( أوّل من سلّ سيفاً في سبيل الله الزبير بن العوام، بينا هو بمكة إذ سمع نغمة ، (يعني صوتاً) بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد قتل، فخرج وفي يده السيف مُصلتاً مسحوبا من غِمده، فتلقاه النبي، وقال له: ما لك يا زبير؟ قال: سمعت أنك قد قُتلتَ، قال: فماذا كنتَ صانعًا؟ قال: أردتُ واللهِ أن استعرض أهل مكة بهذا السيف، من شدّة حبّه للنبي عليه الصّلاة والسلام، فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام )).
باع الزبيرُ داراً له بستمئة ألف، قال: فقيل له: يا أبا عبد الله غُبِنتَ، قال: كلا, واللّه لتعلمنَّ أني لم أُغبَن, هي في سبيل الله .
وعن عليِّ بن زيدٍ، قال: (( أخبرني من رأى الزبير, وإن في صدره مثلُ العيون من الطعن والرمي )).
قال الزبير بن العوام: ((من استطاع منكم أن يكون له جَنْيٌ من عملٍ صالح فليفعل)). وهذا الموضوع دقيق, فكل إنسان له مقام عند الله بحجم عمله الصَّالح، فالإنسان يحاسب نفسه حساباً عسيرًا، فإن حاسب نفسه في الدنيا حسابا عسيراً كان حسابه يوم القيامة يسيرًا، وإن حاسبها حسابا يسيرا كان حسابه يوم القيامة عسيرا .
هذا الصحابي كان الناس يضَعون عنده المال ثِقَةً به، من شِدَّة ورَعِهِ كان يقول لهم: سَلَفٌ وليس أمانة، إذْ الأمانة لو تَلِفَتْ فهي على صاحِبِها، فما دام لم يُصِبْها عُدْوانٌ ولا تقْصير فالمُؤْتَمَنُ ليس ضامِناً، فكان هذا الصحابي لِشِدَّة وَرَعِهِ إذا أخذ مالاً لِيَكون أمانةً عنده عدَّهُ دَيْناً عليه، فإذا تَلِفَ كان عليه أنْ يرُدَّهُ، وقف هذا المَوْقف وألزم نفسه به ورعًا. ومن لم يكن له ورعٌ يصده عن معصية الله إذا خلا لم يعبأ الله بشيء من عمله، هذا في الورع، أما الزهد فهو انتقال الدنيا من قلبك إلى يديك, إن كانت في القلب فهي مصيبة، لأن القلب إذا أحبَّ الدنيا حبًّا جمًّا كان له هذا الحب حجابا عن الله عز وجل، والدنيا أحيانا يمكن أن تسهم في خدمة الخلق، في حلّ مشكلات الناس، في الرقيِّ عند الله عز وجل، فالقاسم المشترك هو الورع والزهد والتضحية والحبُّ، فحبهم للنبيِّ عليه الصّلاة والسلام كان من أعظم ما يميِّز هؤلاء عن الأبطال، أبو سفيان حينما رأى سيدنا خبيبًا قبيل أن يُصلَب, سأله: (( أتحب أن يكون محمدٌ مكانك، وأنت في أهلك؟ فانتفض خبيب، وقال: والله ما أحبُّ أن أكون في أهلي وولدي وعندي عافية الدنيا و نعيمها ويصاب رسول الله بشوكة )) ، لذلك قال أبو سفيان: (( ما رأيتُ أحداً يحبُّ أحداً كحبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً )).
لذلك هؤلاء الذين رضي الله عنهم هكذا كانوا، وهكذا ينبغي أن نكون حتى يرضى الله عنَّا.
