بحث

حذيفة بن اليمان الذي سأل عن الشرّ ليحيا على الحقّ … أمين سرّ النبي

حذيفة بن اليمان الذي سأل عن الشرّ ليحيا على الحقّ … أمين سرّ النبي

بسم الله الرحمن الرحيم

     الشيء الذي يلفت النظر أن كل صحابي نسيج وحده كما يقولون، يتمتع بشخصية لها سماتها وخصائصها، وهذه الشخصية كأنها جاءت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام لتكون قدوة لمثيلاتها في العصور القادمة، فكل صحابي يمثل شخصية نجدها في كل عصر، الحقيقة أن المجتمعات تجد فيها في كل عصر شخصاً يلتمع ويعلو ذكره، أما أن تجد في عصر واحد عدداً لا ينتهي من الأبطال، وكل واحد نسيج وحده، فهذا لم يتوافر إلا في عصر الرسالة الإسلامية, وعهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

     سيدنا حذيفة بن اليمان عاش والده في المدينة, فهو مكي الأصل, مدني النشأة، فلما بعث النبي عليه الصلاة والسلام كان حذيفة على شوق كبير ليلقى النبي عليه الصلاة والسلام ، ويملأ جوانحه من حبه، فما إن التقى بالنبي عليه الصلاة والسلام، حتى سأله النبي الكريم: (( يا حذيفة,أمهاجر أنت أم أنصاري ؟... )) . ماذا نفهم، يعني أنت أيها المؤمن إذا التقيت بإنسان ينبغي أن تحدثه عن شيء يعيشه، عن قضية يعانيها، قال عليه الصلاة والسلام: (( من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم )) .لأنه هو مكي الأصل, مدني النشأة، (( ... إن شئت كنت من المهاجرين، وإن شئت كنت من الأنصار , فقال حذيفة رضي الله عنه: بل أنا أنصاري يا رسول الله )) آثر أن يكون مع الأنصار.

     سيدنا حذيفة بن اليمان، في معركة أحد قُتل أبوه خطأً، قُتل أباه بسيوف المسلمين، وأباه مسلم، هذا الشيء يقع في كل الحروب, فهذا يحدث ولأنه يحدث له تشريع في القرآن الكريم، سماه القرآن القتل الخطأ: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً﴾،  فصار حذيفة ينادي أبي أبي، لكنه في ضجيج المعركة، وصليل السيوف, مات أبوه بأسياف المسلمين خطأ، فما زاد على أن قال لهم: (( يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين )) أما عند النبي عليه الصلاة والسلام فالحق أحق أن يتبع، فأمر أن يعطي حذيفة دية أبيه، وهي دية من قُتل خطأً, فقال حذيفة: (( يا رسول الله, أبي كان يطلب الشهادة, وقد نالها، اللهم اشهد أني تصدقت بديته على المسلمين )) . لذلك إذا وقع خطأ في حادث فهناك عدل وهناك إحسان، العدل أن يدفع المتسبب الدية ، أما الإحسان أن تعفو عنه إذا كنت أنت ولي الأمر.

     النبي الكريم حينما انتقل إلى المدينة ظهرت فئة اسمها المنافقون، المنافق إنسان يظهر ما لا يبطن، فالمنافق خطر، والمنافق إنسان يعيش مع المؤمنين، ويصلي معهم، ويسلك في ظاهر الأمر مسالكهم: ﴿وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً﴾،  والنبي الكريم رأى حذيفة ذكياً، ورآه صاحب بديهية، ورآه كتوماً للسر، كلفه وأفضى إليه بأسماء المنافقين الذين أطلعه الله عليهم، فكان حذيفة بن اليمان صاحب سر رسول الله . سيدنا عمر بن الخطاب الصحابي الجليل عملاق الإسلام، ثاني الخلفاء الراشدين، الذي ملأ الأرض بعدله, والذي ملأ العين والسمع بأخلاقه، واندفاعه، وجرأته، كان قلقاً على نفسه؟ إلى أن التقاه عمر يوماً, وقال: (( يا حذيفة, أنشدك الله هل وجدت اسمي بين المنافقين؟ فخجل هذا الصحابي أشد الخجل، قال: لا والله أنت أكرمنا، ولكن لا أزكي بعدك أحدا ً )) يعني أعذرني لا تحرجني بأسماء أخرى. لأن الله عز وجل قال في القرآن: ﴿وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ﴾،  ومن حرص النبي على تنفيذ أمر الله، أنه أعطى أسماء المنافقين لهذا الصحابي عند وفاته، حتى إذا مات أحدهم فلا يصلى عليه، نعوذ بالله من النفاق، لا خوف على الدين من أعدائه، فأعداؤه مكشوفون، ولكن من أدعيائه من المنافقين.

     الحقيقة أتمنى على الله عز وجل, وأرجو أن تعلموا علم اليقين أن واحداً منا لن يستطيع أن يصل إلى جنة عرضها السموات والأرض إلا إذا مر بامتحانات شديدة، فهناك أدلة كثيرة تشير إلى الابتلاء: ﴿حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾.  فالصحابة الكرام في قمة إخلاصهم، وحبهم، وإقبالهم, وورعهم، وطاعتهم في القمة جاءتهم معركة الخندق فزلزلوا بها، وقد قال أحد الذين عاشوا مع النبي حينما رأى قريشاً, وكل القبائل قد جمعت كل إمكاناتها وطاقاتها, وجاءت بجيش لم يجّيش مثله في تاريخ الجزيرة ، عشرة آلاف مقاتل, جاءوا ليستأصلوا الإسلام، ليبيدوه عن آخره، واليهود مِن ظهر النبي نقضوا العهد، واتفقوا مع الأحزاب ليطعنوا النبي من الظهر والمدينة مكشوفة، وغدا مستقبل الإسلام قضية ساعات، حسب رأي المنافقين والكفار، وقد كان النبي وعدهم أن يفتح عليهم بلاد قيصر وكسرى، ما هذا الكلام؟ أين بلاد قيصر؟ وأين بلاد كسرى؟ فالأمر لما ضاق به المسلمون، حمل أحد المنافقين على أن يقول: أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، غير قادر على أن يفرغ مثانته، هذا الذي قال هذا الكلام: شعر أن هذا النبي ليس نبياً، والدليل أنه انتهى مع المنافقين، لكن ربنا عز وجل وصف الحال بقوله: ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً﴾ لكن: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾، أراد النبي أن يبعث إلى جيش العدو رجلاً يندس فيهم ليأخذ أخبارهم، لا بد من صحابي على مستوى عالٍ من الذكاء، وسرعة البديهة، والفطنة, وكتمان السر، فاسمعوا سيدنا حذيفة وهو يروي لكم قصته, قال: كنا في تلك الليلة صافين قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من مشركي مكة فوقنا، وبنو قريظة من اليهود أسفل منا، نخافهم على نسائنا وذرارينا، وما أتت ليلة قط أشد ظلمة ولا أقوى رياحاً منها، فأصوات رياحها مثل الصواعق، وشدة ظلامها تجعل أحدنا لا يرى إصبعه ، فأخذ المنافقون يستأذنون الرسول عليه الصلاة والسلام, ويقول أحدهم: عندنا مشكلة بالبيت، والآخر جدار بيته تهدم، كلها أعذار واهية، والله سبحانه وصف أحوال المنافقين, فقال على ألسنتهم: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً﴾،  فكلهم تسللوا، وما بقي مع رسول الله إلا ثلاثمئة, عند ذلك قام النبي عليه الصلاة والسلام وجعل يمر بنا واحداً واحداً، حتى أتى إليّ, وما علي شيء يقيني من البرد إلا مرط لامرأتي،  المرط يعني ثوب مثل عباءة غير مخيط مجرد قطعة قماش، لا يجاوز ركبتي، فاقترب مني وأنا جاثٍ على الأرض, وقال:  (( من هذا؟ قلت: حذيفة، فتقاصرت, وتقاصرت إلى الأرض كراهية أن أقوم من شدة الجوع والبرد، قلت: نعم يا رسول الله، فقال: إنه كائن في القوم خبرٌ أريد حقيقته فتسللْ إلى عسكرهم وائتني بخبرهم، قال: فخرجت وأنا من أشد الناس جزعاً، وأكثرهم فزعاً، وأكثرهم برداً، فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم أحفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته, قال: فو الله ما تمت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام, حتى أنتزع الله من جوفي كل ما أودعه فيه من خوفٍ، وأزال عن جسدي كل ما أصابه من برد, فلما وليت ناداني عليه الصلاة والسلام  قال: يا حذيفة, لا تُحدثَن بالقوم شيئاً, فقلت: نعم، ومضيت أتسلل في جنح الظلام حتى دخلت في جند المشركين، وصرت كأني واحد منهم، وما هو إلا قليل حتى قام أبو سفيان فيهم خطيباً، وقال: يا معشر قريش, إني قائل لكم قولاً: أخشى أن يبلغ محمداً فلينظر كل رجل منكم إلى جليسه, قال: فما كان مني إلا أخذت بيد الرجل الذي كان بجانبي, وقلت له: من أنت؟ قال: أنا فلان، وهنا قال أبو سفيان:يا معشر قريش، إنكم والله ما أصبحتم بدار قرار لقد هلكت رواحلنا، وتخلت عنا بنو قريظة، ولقينا من شدة الريح ما ترون فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله ففك عقاله، وجلس عليه، ثم ضربه فوثب قائماً، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام أمرني ألا أحدث فيهم شيئاً حتى آتيه لقتلته بسهمٍ، ولكنه ما أحدث شيء، عند ذلك رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدته قائماً يصلي، في مرط لبعض نسائه، فلما رآني، أدناني إلى رجليه, وطرح علي طرف المرط، فأخبرته الخبر، فسر به سروراً شديداً، وحمد الله وأثنى عليه )) فالله عز وجل تولى نصر المسلمين، لأن الأمر كان في منتهى الضعف, والله عز وجل قال: ﴿وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ﴾. 

     سيدنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه, مرة قال: كان الناس يسألون النبي عليه الصلاة والسلام عن الخير, وكنت أسأله عن الشر، مخافة أن يدركني .

     قلت: يا رسول الله، إنا كنا في جاهلية وشر، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: نعم، بعد هذا الخير هناك شر,  قلت: فهل بعد هذا الشر من خير؟. قال: نعم, وفيه دخن.  قلت: وما دخنه؟ . قال: قومٍ يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر, قال له: وهل بعد هذا الخير من شر؟ . قال : نعم، دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها . قلت: يا رسول الله، فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ . قال: تلزم جماعة المسلمين، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة؟ قال: تعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض على أصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك

     ولهذا الصحابي الجليل مواقف بطولية، فمن يصدق أن بلاد نهاوند بأكملها فتحت على يده. 

     من كلام سيدنا حذيفة: (( ليس خياركم الذين يتركون الدنيا للآخرة، ولا الذين يتركون الآخرة للدنيا، ولكن الذين يأخذون من هذه ومن هذه )) .

     حينما جاءه ملك الموت دخل عليه بعض أصحابه، فسألهم: (( أجئتم ومعكم أكفان؟ قالوا: نعم, قال: أروني إياها, فلما رآها، وجدها جديدة فارهة, فارتسمت على شفتيه آخر بسماته الساخرة، وقال لهم: ما هذا لي بكفن، إنما يكفنني لفافتان بيضاوان ليس معهما قميص، فإني لن أترك في القبر إلا قليلاً، حتى أبدل خيراً منهما أو شراً منهما, وتمتم بكلمات، ألقى الجالسون أسماعهم إليها فسمعوها, ماذا قال؟ قال: مرحباً بالموت، حبيبٌ جاء على شوق، لا أفلح من ندم, وصعدت روحه إلى السماء )) .



المصدر: الصحابة الكرام : 13 - سيدنا حذيفة بن اليمان