بحث

جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين.. مدرسة الهجرة والبطولة والثبات

جعفر بن أبي طالب ذو الجناحين.. مدرسة الهجرة والبطولة والثبات

بسم الله الرحمن الرحيم

     جعفر بن أبي طالب, هو أخ لسيدنا علي بن أبي طالب، انضم هذا الصحابي الجليل إلى ركب النور هو وزوجته أسماء بنت عميس منذ أول الطريق في وقت مبكرٍ جداً قبل أن يدخل النبي عليه الصلاة والسلام دار الأرقم بن الأرقم، وهي أول دارٍ ظهرت فيها الدعوة الإسلامية.  

     لقي الفتى الهاشمي جعفر بن أبي طالب، وزوجه الشابة، من أذى قريش و نكالها ما لقيه المسلمون الأولون، الكفار ضيّقوا على أصحاب النبي، ونكلوا بهم وعذبوهم، لذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام، أمرهم بالهجرة إلى بلد فيها ملك صالح, فاستأذن سيدنا جعفر بن أبي طالب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهاجر مع زوجته، ونفرٌ من الصحابة، فأذن لهم وهو حزين. حينما علمت أن بعض الصحابة الكرام هاجروا إلى الحبشة, ونجوا من تعذيبها ونكالها، فأرادت أن تكيد لهم, وأن ترجعهم مقهورين إلى مكة، ولنترك الكلام لأم سلمة رضي الله عنها، تروي لنا الخبر كما عاينته، لأنها كانت إحدى المهاجرات، قالت: (( لما نزلنا أرض الحبشة, لقينا فيها خير الجوار, فأمِنّا على ديننا، وعبدنا الله ربنا من غير أن نؤذى، أو نسمع شيئاً نكرهه, أرسلت قريش إلى النجاشي رجلين جلدين، وأكثرهم دهاءً، فلما قدما الحبشة لقيا بطارقة النجاشي ودفعا إلى كل بطريق هديته، فلم يبقَ أحد منهم إلا أهديا إليه, وقالا له: إنه قد حل في أرض الملك غلمان من سفهائنا, صبؤوا عن دين آبائهم وأجدادهم، وفرقوا كلمة قومهم، فإذا كلمنا الملك في أمرهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، من دون أن يسألهم عن دينهم, فإن أشراف قومهم أبصر بهم، واعلم بما يعتقدون, ولم يكن هناك شيء أكره لعمرو وصاحبه من أن يستدعي النجاشي أحداً منا، ويسمع كلامه ... الحق لا يخشى البحث، ولا يستحي به، ولا تحتاج أن تكذب له، ولا أن تكذب عليه، ولا أن تبالغ به، ولا أن تقلل من خصومه، الحق حق، والباطل باطل... قالوا أيها الملك: إنه قد آوى إلى مملكتك طائفة من أشرار غلماننا، قد جاؤوا بدين لا نعرفه لا نحن ولا أنتم، ففارقوا ديننا، ولم يدخلوا في دينكم، وقد بعثَنا إليك أشراف قومهم، من آبائهم، وأعمامهم، وعشائرهم، لتردهم إليهم، وهم أعلم الناس بما أحدثوا من فتنة ، نظر النجاشي إلى بطاركته, فقال البطارقة: صدقا أيها الملك، لقد فعلت الهدايا فعلها، فإن قومهم أبصر بهم، وأعلم بما صنعوا، فردهم إليهم ليروا رأيهم فيهم, فغضب الملك غضباً شديداً، من كلام بطارقته، وقال: لا والله لا أسلمهم لأحد حتى أدعوهم، وأسألهم عما نسب إليهم، ثم أرسل النجاشي يدعونا إلى لقائه، فاجتمعنا قبل الذهاب إليه، وقال بعضنا لبعض: إن الملك سيسألكم عن دينكم فاصدعوا بما تؤمنون به، الملك نصراني،  وليتكلم عنكم جعفر بن أبي طالب، هكذا النظام، رئيس الوفد يتكلم، ولا يتكلم أحد غيره قالت أم سلمة: ثم ذهبنا إلى النجاشي فوجدناه قد دعا بطاركته، فجلسوا عن يمينه وعن شماله، وقد لبسوا طيالستهم, واعتمروا قلانسهم، ونشروا كتبهم بين أيديهم, فلما استقر بنا المجلس، التفت إلينا النجاشي وقد توجه إلينا، وقال: ما هذا الدين الذي استحدثتموه لأنفسكم, وفارقتم بسببه دين قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أي من هذه الملل؟ تقدم منه جعفر بن أبي طالب, وقال أيها الملك: كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة, ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، وبقينا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه, وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده، ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وقد أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم ، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة ، ونؤتي الزكاة، ونصوم رمضان، فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فأحللنا ما أحل لنا، وحرمنا ما حرم علينا، فما كان من قومنا أيها الملك, إلا أن عَدَوا علينا، فعذبونا أشد العذاب ليفتنونا عن ديننا، ويردونا إلى عبادة الأوثان، فلما ظلمونا, وقهرونا، وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك, ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك, قالت أم سلمة:  فالتفت النجاشي إلى جعفر بن أبي طالب، وقال له: هل معك شيءٌ مما جاء به نبيكم عن الله، قال: نعم، قال: فاقرأه عليّ، فقرأ، وقد انتقى له سورة مريم: ﴿ كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آَلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً حتى أتم صدراً من السورة . قالت أم سلمة: فبكى النجاشي، حتى اخضلت لحيته بالدموع، وبكى أساقفته حتى بللوا كتبهم، لِما سمعوا من كلام الله، وهنا قال لنا النجاشي: إن هذا الذي جاء به نبيكم، والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، هذا هو الحق، ثم التفت إلى عمرو وصاحبه, وقال لهما: انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكم )) قالت أم سلمة:  (( فلما خرجنا من عند النجاشي، توعدنا عمرو بن العاص، وقال لصاحبه: والله لآتين الملك غداً, ولأذكرن له من أمرهم ما يملأ صدره غيظاً منهم، ويشحن فؤاده كرهاً لهم، ولأحملنّه على أن يستأصلهم من جذورهم، فلما كان الغد دخل عمرو على النجاشي, وقال له: أيها الملك إن هؤلاء الذين آويتهم وحميتهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً: فأرسل إليهم وسلهم عما يقولون فيه . قالت أم سلمة: فلما عرفنا ذلك نزل بنا الهم والغم، ما لم نتعرض لمثله قط، وقال بعضنا لبعض: ماذا نقول في عيسى بن مريم، إذا سألكم عنه الملك؟ فقلنا؛ والله لا نقول فيه إلا كما قال الله عز وجل، ولا نخرج في أمره قيد أنملة، عما جاء به نبينا، وليكن بسبب ذلك ما يكون, ثم اتفقنا على أن يتولى الكلام عنا جعفر بن أبي طالب أيضاً، فلما دعانا النجاشي دخلنا عليه فوجدنا عنده بطاركته على الهيئة التي رأيناهم عليها من قبل، ووجدنا عنده عمرو بن العاص وصاحبه، فلما صرنا بين يديه بادرنا بقوله: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ فقال له جعفر بن أبي طالب: إنما نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم, قال النجاشي: ما الذي يقول فيه نبيكم؟ فأجاب جعفر, يقول عنه: إنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فما إن سَمِع النجاشي قول جعفر حتى ضرب بيده الأرض، وقال: والله ما خرج عيسى بن مريم عما جاء به نبيكم مقدار شعرة، هذا هو الحق, عبد الله ورسوله وروحه وكلمته التي ألقاها إلى مريم العذراء البتول, فتناخرت البطاركة من حول النجاشي،  تناخرت معناها, أخرجوا أصوات من أنوفهم،  فقال النجاشي: وإن نخرتم، هذا الذي قالوا عنه هو الحق ثم التفت, وقال: اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي، من سبكم غرم، ومن تعرض لكم عوقب، ثم نظر إلى عمرو وصاحبه، وقال: ردوا على هذين الرجلين هداياهم فلا حاجة لي بهما . أرادوا أن يستأصلهم من جذورهم، لكن لم يستطيعوا, قالت أم سلمة: فخرج عمرو وصاحبه مكسورين، مقهورين، يجران أذيال الخيبة، أما نحن فقد أقمنا عند النجاشي بخيرِ دارٍ مع أكرم جار )) .

     وفي السنة السابعة للهجرة غادر سيدنا جعفر مع نفر من المسلمين بلاد الحبشة متجهين إلى يثرب فلما بلغوها كان عليه الصلاة والسلام عائداً من خيبر بعد أن فتحها الله له، ففرح بلقاء جعفر فرحاً شديداً، حتى قال: (( والله ما أدري بأيهما أنا أشد فرحاً بفتح خيبر أم بقدوم جعفر )).

     كان سيدنا جعفر شديد الحدب على الضعفاء والمساكين، كثير البر بهم، حتى إنه كان يلقب بأبي المساكين، أخبر عنه أبو هريرة, فقال: (( كان خير الناس لنا معشر المساكين، فقد كان يمضي بنا إلى بيته فيطعمنا، حتى إذا نفد طعامه أخرج لنا العكة التي يوضع فيها السمن, وليس فيها شيء فنشقها, ونلعق ما علق بداخلها ))

     في أول السنة الثامنة للهجرة جهز النبي صلوات الله عليه جيشاً لمنازلة الروم في بلاد الشام، وأمر على هذا الجيش زيد بن حارثة, وقال: ((إ ذا قتل زيد أو أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب، فإن قتل جعفر أو أصيب فالأمير عبد الله بن رواحه، فإن قتل عبد الله بن رواحه أو أصيب فليختر المسلمون لأنفسهم أميراً)). فلما وصل المسلمون إلى مؤتة, وهي قرية واقعة على مشارف الشام في الأردن, وجدوا أن الروم قد أعدوا لهم مئة ألف تظاهرهم مئة ألف أخرى، من نصارى العرب، من قبائل لخم وجذام وقضاعة، أما جيش المسلمين فكان ثلاثة آلاف، وما إن التقى الجمعان ودارت رحى الحرب حتى خر زيد بن حارثة صريعاً مقبلاً غير مدبر، فما كان إلا أن أسرع جعفر بن أبي طالب وترجل عن ظهر فرسه، وبدأ يقاتل الجيش مشياً على قدميه, وحمل الراية, وأوغل بها في صفوف الروم, وهو ينشد:  يا حبذا الجنة و اقترابها طيبة وباردٌ شرابها. الروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها. عليّ إذ لاقيتها ضرابها. وظل يجول في صفوف الأعداء بسيفه, ويصول حتى أصابته ضربة قطعت يمينه، فأخذ الراية يمينه, فأمسك الراية بشماله، فما لبث أن قطعت شماله، فأخذ الراية بصدره وعضديه، فما لبث أن أصابته ثالثة، فأخذ الراية منه عبد الله بن رواحه فما زال يقاتل بها حتى لحق بصاحبيه. بلغ النبي عليه الصلاة والسلام مصرع القواد الثلاثة، فحزن عليهم أشد الحزن، وانطلق إلى بيت ابن عمه جعفر، فألفى زوجته أسماء تتأهب لاستقبال زوجها الغائب، فهي قد عجنت عجينها، وغسّلت بنيها، ودهنتهم، وألبستهم. قالت أسماء: ((فلما أقبل علينا النبي عليه الصلاة والسلام، رأيت غلالة من الحزن توشح وجهه الكريم، كثرتْ المخاوف في نفسي، غير أني لم أشأ أن أسأله عن جعفر، مخافة أن أسمع منه ما أكره، فحيا وقال: ائتني بأولاد جعفر، فدعوتهم له، فهبوا نحوه فرحين مزغردين وأخذوا يتزاحمون عليه كلٌ يريد أن يستأثر به فأكب عليهم، أقبل نحوهم، وتشممهم، وعيناه تذرفان من الدمع، فقلت: يا رسول الله, بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وصاحبيه شيء ،  قال: نعم، لقد استشهدوا هذا اليوم، وقال: ((اللهم اخلف جعفراً في ولده، اللهم اخلف جعفراً في أهله, ثم قال: لقد رأيت جعفراً في الجنة له جناحان مضرجان بالدماء، وهو مصبوغ القوادم)).



المصدر: الصحابة الكرام : 16 - سيدنا جعفر بن أبي طالب