سعيد بن عامر، هذا الصحابي سوف ترون لديه عفة ما بعدها عفة، ونزاهة ما بعدها نزاهة، والحقيقة هذه ثمرة يانعة تجدها عند المؤمن، فما قيمة المعلومات إنْ لم تكن مثمرة ثمارًا يانعة؟ كل إنسان ذكي ينتسب إلى الجامعة يقرأ عددًا من الكتب، ويحفظ ما فيها، ويكون طليق اللسان، الكلام سهل جداً، النقطة الدقيقة لو أنّك تعلمتَ، وفهمتَ، وتكلمتَ ولم تكن في مستوى الكلام فهذا الشيء لا يقدِّم ولا يؤخِّر، فنجاح الإنسان ليس في مدى معلوماته، بل في مدى تطبيقاته.
هذا الصحابي سعيد بن عامر الجمحي كان واحداً من الآلاف المؤلفة الذين خرجوا إلى منطقة التنعيم، في ظاهر مكة، بدعوة من زعماء قريش، ليشهدوا مصرع خبيب بن عدي، أحد أصحاب محمد، بعد أن ظفروا به غدراً بعد معركة بدر الحاسمة، التي جعلت أنوف قريش في الوحل، ثلاثمئة صحابي على ضُعفٍ في قوتهم وعدتهم وعتادهم، لكنهم على قوةٍ في إيمانهم جعلوا صناديد قريش زعيمة الجزيرة العربية راغمة أنوفها، ويذلُّونها، فتركت معركة بدر أثرًا نفسيًّا سلبيًّا جداً عند قريش، لذلك غلت دماؤهم، واشتد حقدهم، وأي صحابي عثروا عليه ولو غدراً يقتلونه، ويمثلون به، ليشفوا غليلهم، فهذا الصحابي سيدنا خبيب بن عدي رضي الله عنه لحكمة أرادها الله وقع بأيدي كفار قريش وسيق ليُقتَل مع التمثيل به .
أيُّ إنسان شاءت حكمة الله أن ينتهي أجله، وكان الله راضيًا عنه ينطبق عليه قول الله عز وجل: ﴿قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ﴾، وعندما يُسعِد اللهُ إنسانًا فهذا شأنٌ لا يوصف، وإذا ألقى الله عز وجل في قلبك رحمته فأنت أسعد الناس، ولو كنت أفقر الناس، وأنت أسعد الناس، ولو كنت أشد الناس مرضاً، وأنت أسعد الناس، ولو كانت ظروف حياتك في منتهى القسوة والخشونة، وإذا حَجَبَ عنك رحمته، وكنت مترفًا إلى أعلى درجة كنت أشقى الناس. يجب أن تعلموا أنّ فعل الإيمان بالنفس كفعلِ السحر، أمرٌ لا يصدق، ليس هذا لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هو لكل مؤمن سلك مسلكهم، ولكل مؤمن عرف ربه، ولكل مؤمن التزم منهج ربه، ولكل مؤمن أخلص لله، ولا بد أن يكرمه الله عز وجل، حينما تطيع الله، وحينما تخلص، وحينما تحبُّ الله حقًّا، فلا بد أنّ الله جل جلاله يبادلك حبًّا بحبٍّ عن طريق التكريم، فيُحدِث لك أمورًا غريبة، وترى الأمور ميسرة لك، ولك هيبة كبيرة عند الناس، وأنت مرتاح، ليس عندك الشعور بالقهر، شعورك النفسي سويٌّ، وأنت أسعد الناس ولو أنك تفتقر إلى كل شيء، قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ .
الإنسان في الدنيا تتحكم فيه قيم مادية طاغية، تحجبه عن حقيقته الإنسانية، لأنه يستخدم موازين خاطئة، وحجبٌ مُضَلِّلة، ويكون عنده أقنعة مزيفة، ولكنْ عند الموت تسقط كل هذه الأقنعة المزيفة، وتتلاشى القيم المادية، وتحطم الموازين غير الصحيحة، ليحاسب في ضوء قيم جديدة، فما هي هذه المقاييس؟ وما هي هذه الموازين والقيم؟ إنها مدى معرفتك بالله، ومدى معرفتك بمنهج الله، ومدى استقامتك على منهج الله، وحجم عملك الصالح الذي نفعت به الخلق.
فهذا سيدنا خبيب بن عدي اأُلقِي القبضُ عليه غدراً، وسيق ليُقتَل، ويمثَّل به، وهو في أسعد لحظات حياته، ذهبَ شبابُ مكة ليشاهدوا مصرعَ خبيب، فقد كان خبيب بن عدي فتىً متدفقًا موفورَ الفتوة، ومع ذلك هذا مصيره الذي أراده الله له، لكن العبرة في الخاتمة الحسنة، وهي الجنة، قال تعالى: ﴿ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ ﴾، وصلت هذه الجموع الحاشدة بأسيرها إلى المكان المُعَدِّ لقتله، فوقف الفتى سعيد بن عامر الجمحي بقامته الممدودة يطلّ على خبيب، ولم يكن مسلماً يومئذٍ، وقف يطل على خبيب، وهو يقدم إلى خشبة الصلب، وسمع صوته الثابت الهادئ من خلال صياح النسوة والصبيان، وهو يقول: إن شئتم أن تتركوني أركع ركعتين قبل مصرعي فافعلوا، فالصلاة عنده أعظم شيء في حياته، أنا راضٍ بما كتبه الله لي، فنظر إليه سيدنا سعيد بن عامر الجمحي وهو يصلي ركعتين، ويستقبل الكعبة ويصلي، وقال: ((ففعلوا، يا لحسنهما! ويا لتمامهما!-لكنه كان ذكياً- فما أطال الركعتين، ولو أنه أطالهما لظنوا أنه خائف، ويؤخِّر وقت الإعدام- فاتَّجه إلى زعماء قريش، وقال: واللهِ لولا أن تظنّوا أني أطلتُ الصلاة جزعًا من الموت لاستكثرتُ ِمنها، لكن اقتصرت على ركعتين خفيفتين لئلا تظنوا أني خائف من الموت، شهد سعيدٌ قومَه بعينَيْ رأسه وهم يمثِّلون بخبيب، وكان وقتها مشركاً، وهو حيّ، فيقطعون من جسده القطعة تلو القطعة، وهم يقولون: أتحبُّ أن يكون محمداً مكانَك، وأنت ناجٍ؟ فيقول والدماء تنزف منه: واللهِ ما أُحبُّ أن أكون آمناً وادعاً في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها ويصاب محمّدٌ بشوكة ، ما هذا؟ إنسان يقطع لحمه، وتقطع أعضاؤه، ثم يُسأَل: أتحب أن يكون محمدٌ مكانك؟ ماذا فعل لَهُ النبي؟ هداه إلى الله، ماذا أعطاه النبي حتى قُتِل من أجل إيمانه برسول الله؟ لقد أعطاه الهدى والإيمان، لذلك دهش أبو سفيان، بل صُعق، فقال: ((ما رأيت أحداً يحب أحداً كحُبِّ أصحابِ محمدٍ محمداً)) فقد صبُّوا كل حقدهم وكل ضيقهم على هذا الصحابي الجليل، وقتلوه.
لكن الحقيقة سيدنا سعيد بن عامر الجمحي كان وقتها قريبًا من الإسلام، إلى أن شرح الله صدر سعيد بن عامر الجمحي إلى الإسلام، وأعلن براءته من آثام قريش، ومن أوزارها، وخلعه لأصنامها وأوثانها، ودخوله في دين الله، وهاجر سعيد بن عامر إلى المدينة، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه خيبر وما بعدها من الغزوات، ولما انتقل النبي الكريم إلى جوار ربه وهو راضٍ عنه، ظل مِن بعده سيفاً مسلولاً في أيدي خليفتيه أبي بكر وعمر، وعاش مثلاً فريداً فذاً للمؤمن الذي اشترى الآخرة بالدنيا، وآثر مرضاة الله وثوابه على سائر رغبات النفس وشهوات الجسد.
دعا سيدنا عمر عميرًا إلى مؤازرته، وقال له: ((يا سعيد، إني ولَّيتُك على أهل حمص، فقال يا عمر: ناشدتك الله ألا تفتننِّي، فغضب عمر، وقال: ويحكم ويحكم !! وضعتم هذا الأمر في عنقي، ثم تخليتم عني، يجب أن تعينوني، والله لا أدعك، ثم ولاه على حمص، وقال له: ألا نفرض لك رزقاً؟ قال: وما أفعل به يا أمير المؤمنين، فإن عطائي من بيت المال يزيد عن حاجتي، ثم مضى إلى حمص، بعد فترة قليلة وفد على أمير المؤمنين بعض من يثق بهم من أهل حمص، فقال لهم اكتبوا لي أسماء فقرائكم حتى أسديَ حاجتهم، فرفعوا إليه كتاباً فإذا فيه فلان وفلان وسعيد بن عامر، قال: من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال: أميركم فقير! قالوا: نعم, والله إنه لتمرّ عليه الأيام الطوال ولا توقد في بيته النار.فبكى عمر حتى بللت دموعه لحيته، ثم عمد إلى ألف دينار، فجعلها في صرة، وقال: اقرؤوا عليه السلام مني، وقولوا له: بعث إليك أمير المؤمنين بهذا المال لتستعين به على قضاء حاجتك، فجاء الوفد إلى سعيد بالصُّرة، فنظر إليها فإذا هي دنانير، فجعل يبعدها عنه، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، كأنما نزلت به نازلة، أو حلَّ بساحته خطب، فهبَّتْ زوجته مذعورة، وقالت : ما شأنك يا سعيد، أمات أحدٌ مِن المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت: أأصيب المؤمنون في وقعة؟ قال: بل أعظم من ذلك، فقالت: وما أعظم من ذلك؟ قال: دخلتْ عليَّ الدنيا لتفسد آخرتي، وحلَّت الفتنة في بيتي، قالت: تخلَّصْ منها، وهي لا تدري من أمر الدنانير شيئاً، قال: أو تعينيني على ذلك؟ قالت: نعم، فأخذ الدنانير فجعلها في صرة، ثم وزعها على فقراء المسلمين ، لقد خاف أنْ يصبح غنيًّا يتنعم، ويأكل والناس جائعون وهو لا يعلم )).
سيدنا عمر قام بجولة تفقدية إلى الولايات في دولته، فذهب إلى بلاد الشام وحمص يومئذٍ تُدعى الكُويفة، تصغير الكوفة، تشبيهًا لها بالكوفة، لكثرة شكاوى أهلها من عمالهم وولاتهم، كما كان يفعل أهل الكوفة، فلما نزل فيها لقيه أهلها للسلام، وأول سؤال سألهم: ((كيف وجدتم أميركم؟ فشكوه إليه، وذكروا أربعًا من أفعاله، فقال عمر: فجمعتُ بينه وبينهم، و دعوت الله ألا يخيِّب ظني فيه, فلما أصبحوا عندي هم و أميرهم, قلت: ما تشكون من أميركم؟ قالوا: لا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار, فقلت لسعيد: ما تقول في ذلك يا سعيد؟ فسكت قليلاً، ثم قال: والله إني كنتُ أكره أن أقول ذلك, أما وإنه لا بد منه، فإنه ليس لأهلي خادم ، فأقوم في كل صباح فأعجن لهم عجينهم، ثم أتريث قليلاً حتى يختمر، ثم أخبزه لهم، ثم أتوضأ وأخرج للناس. قال عمر: هذه واحدة، وما الثانية؟ قالوا: لا يجيب أحداً بليل, فما تقول يا سعيد؟ قال: والله كنت أكره أن أعلن هذا أيضاً، فأنا قد جعلت النهار لهم والليل لله عز وجل, قلت: وما تشكون أيضاً؟ قالوا: إنه لا يخرج إلينا يوماً في الشهر, قال: وما هذا يا سعيد؟ قال: ليس لي خادم يا أمير المؤمنين، وليس عندي ثياب غير التي عليّ، فأنا أغسلها في الشهر مرة، وأنتظرها حتى تجف، ثم أخرج إليهم, قال: ثم ماذا؟ قالوا: تصيبه من حين لآخر غشية، فيغيب عمن في مجلسه, كأنه يغيب عن الوعي, قال: ما تقول في هذا يا سعيد؟ قال: شهدت مصرع خبيب بن عدي، وأنا مشرك, ورأيت قريشًا تقطِّع جسده وهي تقول: أتحب أن يكون محمدٌ في مكانك؟ فيقول: واللهِ لا أحب أن أكون آمناً في أهلي وولدي، وعندي عافية الدنيا ونعيمها، ويصاب رسول الله بشوكة، وإني واللهِ كلما ذكرت ذلك اليوم، وكيف أني تركت نصرته إلا ظننت أنّ الله لن يغفر لي؟ فقال عمر: الحمد لله الذي لم يخيِّب ظني به، ثم بعث له بألف دينار ليستعين بها على حاجته، ثم رأتها زوجته، قالت له: الحمد لله الذي أغنانا عن خدمتك، اشترِ لنا مؤونة، واستأجر لنا خادماً، فقال لها: وهل لك فيما هو خير من ذلك؟ قالت: وما ذلك؟ قال: ندفعها إلى من يأتينا بها، ونحن أحوج ما نكون إليها، قالت: وما ذاك؟ قال: نقرضها لله قرضاً حسناً، قالت: نعم وجزيت خيراً . فقدْ أعانته، وهذه الألفُ الثانية وزَّعها، وقال لزوجته: انطلقي بها إلى أرملة فلان، وإلى أيتام فلان، وإلى مساكين فلان، وإلى معوزي آل فلان، ووزع الألف الثانية )) هذا سعيد بن عامر الجمحي. إنّ العفّة مِن علامة إيمانك، العفة عن أموال الناس، والعفة عن أعراض الناس، والناس يُؤْتَوْن من المال والنساء، الرشاوى والفضائح في العالم ما أسبابها؟ المال والنساء، فالمؤمن محصن ضدَّ المال والنساء، وهو في حرز حريز.
