سعيد بن زَيْدٍ هذا الصحابيّ الجليل، والده اسمه زَيد بن عمرو بن نُفَيل، كان مرَّةً في مكَّة المُكّرَّمَة، وكانت قُرَيْش تحْتفلُ بأحد أعْيادِها، فرأى الرِّجال يعْتَجِرون بالعَمائِم السُّنْدُسِيَّة الغالِيَة، ويَخْتالون بالبُرودِ اليمانِيَّة الثمينة، وأبصر النِّساء والوِلْدان وقد لبِسوا زاهي الثِّياب وبديع الحُلَل، ونظر إلى الأنعام يقودُها الموسِرون بعد أن حلَّوها بأنواع الزِّينة ليذبحوها بين أيدي الأوثان .وقف زيد بن عمرو بن نفيل والد سيدنا سعيد بن زيد، مُسْنداً ظهره إلى جدار الكعبة وقال: يا معشر قريش، الشاة خلقها الله عز وجل، وهو الذي أنزل لها المطر من السماء فَرَوِيَت، وأنبت لها العشب من الأرض فشبعت، ثم تذبحونها على غير اسم الله عز وجل، إني أراكم قوما تجهلون .قيمة هذه القصة أنَّ والد سيّدنا سعيد بن زيدٍ عاشَ قبل بِعْثة النبي وما سمِع بالقُرآن ولا بِالنَّبي العَدنان، ولا قرأ كتاب الله، ولا نُقِلَتْ إليه الأحاديث الشريفة, شيءٌ فِطْري فَفِطْرَته السليمة أبَتْ هذه العادات القبيحة. الله عز وجل يقول: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾، إعراب هذه الكلمات في هذه الآية أنَّك إذا أقمْتَ وجْهَكَ للدِّين حنيفاً, إقامة وَجْهِك للدِّين حنيفاً هي عَيْنُها فِطْرة الله.ذلك المؤمن المُسْتقيم على أمر الله يشْعر بِراحَةٍ نفْسِيَّة وطُمأنينةٍ وسكينةٍ، لو وُزِّعَتْ على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم، ويشْعُر المُعْرِض عن الله عز وجل باضْطِرابٍ واخْتِلال توازُنٍ وعُقْدة نقْصٍ، وشُعورٍ بالذَّنْب وقلقٍ واضطراب وغَلَيانٍ, لو وُزِّع على أهل بلْدَةٍ لَكَفَتْهم، هذا الإنسان على الفِطْرة, إنما فطرته السليمة قادَتْهُ إلى اسْتِنكار أفْعال قُرَيشٍ. أمَّا عمُّ زيد بن عمرو فهو الخطَّاب, والد عمر بن الخطَّاب، قال تعالى: ﴿ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾، هذا الخطَّاب والد عمر بن الخطَّاب, قام إليه فلطمه, وقال: تبًّا لك ما زلنا نسمع منك هذا البذاء, هذا الكلام السخيف، ونحتمله حتَّى نفد صبرنا. منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها وإلى يوم القيامة, هناك معركة أزلية أبدية بين الحق والباطل في كل عصرٍ ومصرٍ، وفي كل مجتمع وبيئة, وبين أهل الإيمان وأهل الكفر والعصيان، المؤمنون يحبُّون الناس جميعاً، هذه صبغة الله التي اصطبغوا بها، لكنَّ أهل الدنيا لا يحبون المؤمنين، دائماً يقفون في الصفِّ المعارض .
هذا زيد بن عمرو بن نفيل, اِجْتَمَعَ في غَفْلةٍ من قُرَيْش إلى كلٍّ من ورقة بن نَوْفَل ، وعبد الله بن جَحْش، وعُثمان بن الحارث، وأُمَيْمَة بنت عبد المُطَّلِب عمَّة النبي صلى الله عليه وسلّم وجعلوا يتذاكرون فيما غَرِقَتْ فيه قُرَيْشٌ من الضلال، فقال زيْدٌ لأَصْحابه: إنكم واللهِ، تعْلمون أنَّ قوْمكم ليسوا على شيءٍ, وأنهم أخْطؤوا دينَ إبراهيم وخالفوه، فابْتغوا لِأنفسكم ديناً تَدينون به إن كنتم تُريدون النجاة، فَهَبَّ الرِّجال الأربعة إلى أحْبار اليهود والنصارى وغيرهم من أصْحاب المِلَل، يَلْتَمِسون عندهم الحَنِيفِيَّة دين إبراهيم، استمعوا إلى هذه الآية الكريمة، قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾، فإذا كنت في حَيْرَةٍ من أمْرك، وبَحَثْتَ عن الحقيقة، وجَهِدْتَ من أجْلها ودَعَوْتَ الله عز وجل، وقلتَ: يا ربّ أبْتغي الحقيقة، وأبتغي وجْهَك الكريم ورِضْوانك، دُلَّني على ما يدُلُّني عليك، فهذا الدعاء له أثره إنْ شاء الله. قال: أما ورقَةُ بن نَوْفَل فَتَنَصَّر، وأما عبد الله بن جَحْشٍ وعُثمان بن الحارث فلم يَصِلا إلى شيءٍ .أما زيد والد سيّدِنا سعيد فكانت له قِصَّة ولْنَدَعْ له الكلام لِيَرْويَها لنا: قال زَيْدٍ: ((وَقَفْتُ على اليهودِيَّة والنَّصْرانِيَّة فأعْرَضْتُ عنهما، إذْ لم أجِدْ فيهما شيئاً أطْمَئِنُّ إليه - طبْعاً بعد أنْ حُرِّفَ كلٌّ منهما- وجَعَلْتُ أضْرِبُ في الآفاق بحْثاً عن مِلَّة إبراهيم، حتى صِرْتُ إلى بلاد الشام، فَذُكِرَ لي راهِبٌ له علْمٌ من الكِتاب، فأَتَيْتُه وقَصَصْتُ عليه أمْري، فقال: أراك تُريدُ دين إبراهيم يا أخا مكَّة، قُلْتُ: نعم، وذلك ما أبْغي، فقال: إنَّك تطْلب ديناً لا وجود له اليوم، ولكِنَّ الحق بِبَلَدِك، فإنَّ الله يبْعَثُ مِن قَوْمِك مَن يُجَدِّدُ دين إبْراهيم، فإنْ أدْرَكْتَهُ فالْتَزِمْهُ)) وهذا مذكور في كتب النصارى، كما يبيِّنه قوله تعالى: ﴿وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾، وهناك بعض الطبعات للإنجيل فيها إشارة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، منها إنْجيل بَرْنابا، ((فَقَفَل زيدٌ راجِعاً إلى مكَّة بِخُطى حثيثَة اِلْتِماساً للنبيّ المَوْعود، ولما كان في بعض طريقه بعث الله نبِيَّهُ محمَّداً بالهُدى ودين الحق، وبينما هو في الطريق ظهر النبي محمّدٌ، ودعا الناس إلى التوحيد، ولكنَّ زيْداً لم يُدْرِكْهُ، إذْ خَرَجَتْ عليه جماعَةٌ فَقَتَلَتْهُ, وقبل أن يبلغ مكَّة، وقبل أنْ تكْتَحِل عيْناه بِرُؤية النبي عليه الصلاة والسلام، وفيما كان يلْفِظ أنْفاسه الأخيرة، رفع بصره إلى السماء, وقال: اللهمّ إنْ كُنْتَ حَرَمْتني من هذا الخير، فلا تحْرم منه ابني سعيداً)).
فربنا عز وجل اسْتجاب لِزَيْدٍ دَعْوَته الحارَّة، وسيّدنا سعيد بن زيد ما أَنْ بُعِثَ النبي عليه الصلاة والسلام حتى بادر إلى الإيمان به، وكان من السابقين السابقين, آمن به من قبل أنْ ينتقل النبي عليه الصلاة والسلام إلى دار الأرقم، والحقيقة أنّ سيّدنا سعيد بن زيْدٍ, أسْلَمَ وأسْلَمَت معه زوْجته فاطمة بنت الخطاب, أُخْتُ عمر بن الخطاب وقد لَقِيَ هذا الفتى القُرَشي من قومه ما كان خليقاً أنْ يفْتِنَهُ عن دينه، فلقد آذتْهُ قريشٌ وضغطتْ عليهِ، لكنه اسْتطاع أنْ ينتزع منهم عِمْلاقهم سيّدنا عمر.
وقِصَّة إسْلام عمر قِصَّةٌ مؤَثِّرة جداً, بلغه أنَّ أُخْته قد أسْلَمَتْ فانْطَلَق لِيَقْتُلها، وسمع القرآن الكريم فَلانَ قلبه، وخشع فُؤاده، وانْهَمَرَتْ دُموعه، واتَّجَهَ نحو النبي عليه الصلاة والسلام، وقد تَوَجَّس أصْحاب النبي خيفَةً من عمر بن الخطاب، فإذا هو قد جاء مُسْلِماً، وشاء الله أنْ يسلم عمر على يد سعيد بن زيد وأخته فاطمة، فمهما لَقِيَ سعيد من اضطهاد من قومه لكنَّ الله عز وجل وفَّقَهُ إلى أنْ يجعل هذا الإنسان العظيم يُسْلِمُ على يَدَيْه، فَسَيِّدُنا عمر في صحيفة سيّدنا سعيد بن زيد, وفي صحيفة أُخته فاطمة بنت الخطاب .
سيّدنا سعيد بن زيد حينما أسلم، كانت سِنُّهُ لا تزيد عن عشْرين عاماً، وقد شَهِد مع النبي عليه الصلاة والسلام المشاهد كلَّها، بدْرًا وأُحدًا والخندق وحُنينًا وتبوكَ ومُؤتة، إلا بدْراً، لكنه تخَلَّف عن بدْرٍ لأنَّ النبي عليه الصلاة والسلام كلَّفَهُ بِمُهِمَّة، فلما عاد إلى المدينة كان النبي قد خرج إلى بدْرٍ فلما لَحِقَ بالنبي عليه الصلاة والسلام كانت المعركة قد انتَهَتْ.
هذا الصحابي الجليل، سعيد بن زَيْد أسْهَم مع المسلمين في اسْتِلاب عرْشِ كِسْرى، وتقْويض مُلْك قيْصَر، وكانت له في كُلِّ مَوْقِعَةٍ خاض غمارَها المسلمون مواقف مشْهودة، وأيادٍ بيْضاءُ حميدة، ومن أرْوَعِ بُطولاته يوْمَ اليَرْموك، فقد قال: (( لما كان يوم اليرْموك كنا أربعةً وعشرين ألْفاً، أو نحْواً من ذلك، فَخَرَجَتْ لنا الروم بِعِشْرين ومئة ألف, وأقْبلوا علينا بِخُطى ثقيلة، كأنهم الجِبال تُحَرِّكُها أيْدٍ خَفِيَّة، وسار أمامهم الأساقِفَة والبطارقة والقِسِّيسُون يحْمِلون الصُّلْبان، وهم يَجْهَرون بالصلوات فَيُرَدِّدُها الجَيْش من ورائِهم، ولهم هزيمٌ كَهَزيم الرعد، فلما رآهم المسلمون على حالتهم هذه هالَتْهُم كثْرَتُهُم، وخالط قُلوبهم شيءٌ من خَوْفِهم، فعنْدها قام أبو عُبَيْدة بن الجراح أمينُ هذه الأمة يَحُضُّ المسْلمين على القِتال, فقال: عِباد الله، اُنْصُروا الله ينْصُرْكم ويُثَبِّتْ أقْدامكم، عباد الله, اصْبِروا فإنَّ الصبر منْجاةٌ من الكُفْر، ومرْضاةٌ للربِّ، ومدْحَضَةٌ للعارِ، أشْرِعوا الرِّماح، واسْتَتِروا بالتُّروس، وألزموا الصَّمْتَ إلا من ذِكْر الله تعالى في أنفسكم حتى آمركم إنْ شاء الله عند ذلك خرج رجُلٌ من صُفوف المُسْلمين، وقال لأبي عُبَيْدة: إني أزْمَعْتُ أنْ أقْضِيَ نحبي الساعة، فَهَل لك من رِسالة تبْعَثُ بها للنبي صلى الله عليه وسلَّم؟ فقال أبو عُبَيْدة: نعم، أقْرِئه مني ومن المسلمين السلام، وقُل له يا رسول الله: إنا وجَدْنا ما وعدنا ربنا حقاً، قال سعيد: فما إنْ سمِعْتُ كلامه ورأيته يمْتَشِقُ حُسامه، ويَمْضي إلى لِقاء أعْداء الله حتى خررتُ إلى الأرض، وجَفَوْتُ على رُكْبَتَي، وأشْرَعْتُ رُمْحي، وطَعَنْتُ أوَّل فارِسٍ أقبل علينا، ثمَّ وَثَبْتُ على العَدُوّ، وقد انْتَزَعَ الله كُلّ ما في قلبي من الخوف ثم قال: فثار الناسُ في وُجوه الروم، وما زالوا يُقاتِلونهم حتى كُتِبَ لهم النَّصْر )) أربعة وعشرون ألفاً انْتصروا على مئة وعشرين ألفاً.
سيِّدُنا سعيد بن زيد شَهِد فَتْح دِمَشْق، فلما دانت للمسلمين بالطاعة جعله أبو عُبَيْدة بن الجراح والِياً عليها، فكان سعيد أوَّل من وَلِيَ إمْرةَ دِمَشْق من المُسْلمين .
في زمن بني أُميَّة وقعتْ لسيِّدنا سعيد بن زيد حادثة ظلّ أهل المدينة يتحدَّثون بها زمناً طويلاً، وهذه القِصَّة تقع في كُلِّ زمان، ذلك أنَّ أرْوَى بنت أُوَيْس زعمتْ أنَّ سعيد بن زيد, قد غَصَب شيئاً من أرضِها وضمَّها إلى أرْضه، وجعلتْ تلوك ذلك بين المُسلمين، وتتحدَّثُ به إلى أنْ رفَعَتْ أمْرها إلى مروان بن الحكم والي المدينة، واضْطرّ الوالي أنْ يُرْسِل إليه أشْخاصاً لِيُحَقِّقوا في الأمر، فأرسل مروان بن الحكم أُناساً يُكَلِّمونه بِذلك، فَهذه المرأة أساءتْ إلى هذا الصحابي إساءةً بالغة, فصَعُبَ الأمر على صاحب رسول الله, وقال: (( يَرَوْنني ظالِماً أظْلِمُها، فكيفَ أظْلِمُها, وقد سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم, يقول : ((من ظلمَ شِبْراً من أرْضٍ طُوِّقَهُ يوم القِيامة من سبْعِ أرضين )) اللهم إنها قد زعَمَتْ أنني ظلمْتُها، فإنْ كانت كاذِبَةً فأعْمِ بصَرَها وألْقِها في بِئرها الذي تُنازِعُني فيها، وأظهرْ من حقي نوراً يُبَيِّنُ للمسْلمين أنني لم أظْلِمْها )) فالله عز وجل استجاب له، وأظْهرُ الحق. قال: ((فَلَمْ يمْضِ على ذلك إلا القليل حتى سال العقيق, وهو وادٍ في المدينة, سال هذا الوادي سيْلاً لم يسِل مثله قطّ فَكَشَفَ عن الحدِّ الذي كانا يخْتَلِفان فيه، وظهر للناس جميعاً أنَّ سعيداً كانَ صادِقاً، ولم تَلْبث المرأة بعد ذلك إلا شَهْراً حتى عَمِيَتْ، وبينما هي تطوفُ في أرْضِها تِلك سَقَطَتْ في بئْرها )) ولا عَجَبَ في ذلك فالنبي عليه الصلاة والسلام, يقول: (( اتَّقوا دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله حِجاب )).
