بحث

مصعب بن عمير الشاب الداعية

مصعب بن عمير الشاب الداعية

بسم الله الرحمن الرحيم

الصحابة قدوة لنا:  

      أيها الأخوة الأكارم، صحابي اليوم شاب متألق أشد التألق، كان مضرب المثل في شباب قريش، إنه مصعب بن عمير.   

قبل أن أمضي في الحديث عن هذا الصحابي الجليل، لا بد من تعليق ضروري، لماذا ندرس سير صحابة رسول الله؟ لأن النبي عليه الصلاة والسلام، يقول:  إن الله اختارني، واختار لي أصحابي  

      فأصحابه نماذج للبطولة، فأحدنا إذا قرأ سير صحابة رسول الله، لا بد من أن يجد في بعض الصحابة ما ينطبق عليه، فيعد هذا الصحابي إذاً لهذا الأخ الكريم قدوة.   

كيف أسلم مصعب بن عمير وكيف كانت حياته قبل الإسلام؟  

      سيدنا مصعب بن عمير، شاب من شباب مكة الذين يشار إليهم بالبنان، منحه الله وسامة ونجابة، لكن الذي كان يلفت نظر الناس إليه أناقته المتناهية، أثوابه الجميلة، رقة حاشيته، وقد تجد في شباب اليوم من يستهويه الثوب الأنيق، والشعر المرجل، والرائحة العبقة، والأناقة في الحديث والتعبير والحركة، هذا الصحابي يمثل هذا النموذج.  

      يصفه كتاب السيرة بأنه كان فتى ريان، مدللاً، منعماً، كان حديث حِسان مكة، لؤلؤة ندواتِها ومجالسها.   

      انظروا أيها الأخوة، إلى هذا الشاب الأنيق، الناعم، الذي حباه الله ببحبوحة الحياة وبأناقة المظهر، وبحسن الطلعة، هذا الشاب سمع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وكيف أنه جاء بالتوحيد؟ وكيف أنه دعا الناس إلى الإسلام؟ وكيف أنه مع أصحابه القلة الخُلّص؟ كانوا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، هذا الصحابي، بدافع حب الحقيقة، بدافع رغبته الجامحة في معرفة شأن هذا النبي، توجه إلى دار الأرقم بن أبي الأرقم، ليلتقي النبي عليه الصلاة والسلام ويبدو أن هذا الشاب ينطوي على حب للحقيقة، وإيثار للحق، فما إن رأى النبي عليه الصلاة والسلام حتى تجاوبت نفسه معه، وهفا قلبه إليه، ومد النبي عليه الصلاة والسلام يده ليصافحه، وليمسح عن صدره آثار الجاهلية، وكانت لحظة إيمانٍ رائعةٍ سرت في أنحاء هذا الصحابي الجليل، وأعلن إسلامه على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.  

التجربة القاسية التي عاشها مصعب مع أمه أثناء إسلامه:  

       لِهذا الصحابي أم اسمها خناس بنت مالك، تتمتع هذه الأم بقوة في شخصيتها فذة، وقد تجد في كل عصر أما قوية الشخصية، يهابها أبناؤها إلى درجة الخوف، يأتمرون بأمرها بقوة سحرية، يخافون غضبها، يرجون رضاها، أم هذا الصحابي الجليل سيدنا مصعب بن عمير، كانت مهابةً إلى حد الرهبة، قال مصعب حينما أسلم: لم يكن يخاف أحداً، ولا يخشى أحداً،  ولا يحسب حساب أحدٍ إلا أمه، كيف سيواجه أمه بإسلامه؟.  

      كما هي العادة فكر في كتمان إسلامه، وبالمناسبة، فإن الإنسان أحياناً يمرُّ في ظروف صعبة جداً، وفي حالات استثنائية يجد من المناسب أن يكتم إيمانه، وقد ورد في القرآن الكريم إشارة إلى ذلك:  ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)  

      في حالات صعبة جداً، وفي ظروف قاهرة، وفي فتن مستعرة، وفي حالات حرجة لا تستطيع أن تظهر، والله عز وجل ما كلف الإنسان فوق طاقته، فهذه الإشارة في القرآن الكريم، تسلية لكل من كتم إيمانه: ( وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ)  

      فسيدنا مصعب رأى من المناسب أن يكتم إيمانه عن أمه، فظل يتردد على دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويجلس إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو قرير العين بإيمانه، لكنه تفادى غضب أمه بهذا الكتمان، هناك قاعدة: أنه لا شيء يختفي، مهما حاولت أن تخفي شيئاً  لا بد وأن يظهر.  

      رجل اسمه عثمان بن طلحة، أبصر به وهو يدخل خفية إلى دار الأرقم، هذا الرجل عثمان بن طلحة حينما رآه يدخل دار الأرقم، سابق الريح إلى أمه ليخبرها أن ابنك يتردد على دار الأرقم مقر النبي عليه الصلاة والسلام، حينما واجهته أمه ما استطاع أن ينكر الحقيقة، بل قرر أن يظهرها، وقف أمام أمه وعشيرته وأشراف مكة المتجمعين حوله يتلو عليهم في يقينٍ  وثباتٍ القرآن الذي غسل قلبه، وغذّى فؤاده، وملأ جوانحه سعادة.   

      همت أمه أن تسكته بلطمة قاسية، ولكن اليد التي امتدت لتلطمه، ما لبثت أن استرخت وترنحت أمام النور الذي زاده وسامة في وجهه، يعني لا أدري ماذا أقول لكم؟ المؤمن أحياناً يهبه الله هيبة، ورقة، ووضاءة، وجمالاً، بحيث إن الذي يريد أن يناله بالأذى يجمد في مكانه.  

      ذات مرة وقف الحسن البصري رحمه الله تعالى، موقفاً فيه جرأة بالغة جداً، بلغ الحجاجَ موقفُه وانتقادهُ، فأمر السياف أن يقطع رقبته، ومُدّ النطع في مجلس الحجاج، والنطع عبارة عن جلد إذا قطع رأس هذا الرجل، لئلا تصل الدماء إلى الأثاث الفخم والطنافس والأرائك، فيمد جلد كبير جداً، يقف هذا الذي يراد أن يقطع رأسه في وسطه وتضرب عنقه، فإذا نفر الدم أصاب هذا النطع، وطُلب الحسن كي تقطع رقبته، فلما دخل الحسن البصري على الحجاج، تمتم بشفتيه ولم يسمع أحد، ماذا قال؟ لكنه فيما يبدو طلب من الله عز وجل أن يحميه من بطش هذا الرجل، وما إن دخل ووجهه يتلألأ نوراً، حتى وقف له الحجاج ودعاه إلى أن يجلس جنبه، وسأله الدعاء وآنسه وطيب قلبه واحترمه أشد الاحترام وضّيفه، ثم ودعه  فالسياف وقف مذهولاً، لا يدري ماذا يقول؟ إذاً: فلماذا جئتم بي إلى هنا؟.  

      فالمؤمن له هيبة أيها الأخوة، إذا كنت مع الله لاكتسبت هيبة لا يعلمها إلا الله، من هاب الله هابه كل شيء، المؤمن له هيبة، له شخصية قوية ليست من صنعه، ولكن من تفضل الله عليه.  

      لكنها ما لبثت أن أخذته بعد أن تلا على قومه القرآن، لتحبسه في غرفة قصية من غرف البيت، وكأنها بسذاجة إذا حبسته كف عن متابعة النبي الكريم، وعن زيارته، ولكن كان حبسها له بلا جدوى.  

مصعب حقاً ممن هاجر إلى الله ورسوله:  

      بلغ سيدنا مصعباً أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة، بطريقة أو بأخرى، فانسل من غرفته القصية التي حبسته أمه بها، ولحق بالقافلة، وهاجر مع من هاجر إلى الحبشة، وبعد أن أقام هناك ردحاً من الزمن، عاد والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام.   

      فخرج يوماً على بعض المسلمين وهم جلوس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما إن بصروا به، حتى حنوا رؤوسهم، وغضوا أبصارهم، وذرفت بعض عيونهم دمعاً شجياً، ذلك أنهم رأوه يرتدي جلباباً مرقعاً بالياً، وعاودتهم صورته الأولى قبل إسلامه، حيث كانت ثيابه كزهور الحديقة نضرة وعطرة، تمّلى النبي الكريم به جيداً، تملّى مشهده بنظرات حكيمة  شاكرة، محبة، وتألقت على شفتيه ابتسامة جليلة، وقال:  لقد رأيت مصعباً هذا، وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله  

      إذا كان الإنسان ذا دخل محدود، وبإمكانه أن يحصل على أموال طائلة بطريق غير مشروع، فاختار طاعة الله، ودخله المحدود جعله يرتدي ثياباً من الدرجة الخامسة، وبيته متواضع، وأكله خشن، فأنا أرى أن هذا وسام شرف، كله زائل أيها الأخوة، يعني إذا أنت آثرت الحق، آثرت أن تستقيم على أمر الله، آثرت أن ترضي الله عز وجل، آثرت ألا تأكل حراماً، آثرت أن تأكل من كد يدك، وعرق جبينك، آثرت ألا تأكل مالاً ليس لك، هذا الدخل الشرعي الحلال الطيب القليل، لكن هذا الدخل القليل جعلك تسكن بيتاً صغيراً، وأن تأكل طعاماً خشنا، وأن ترتدي ثياباً من الدرجة الخامسة، فهل تستحيي مما أنت عليه؟ إن كنت تستحيِ مما أنت فيه، فأنت لا تعرف الله.  

      أخ كريم محامٍ، قال لي: يا أستاذ، جاءني رجل عرض عليّ قضية لأكون وكيلاً له فيها، وهذه القضية مشمولة بقانون العفو فكنت صادقاً معه، قلت له: يا فلان، قضيتك لا تحتاج إلى محامٍ، تقدم بطلب إلى المحكمة الفلانية، وسيصدر حكمٌ فوري بإعفائك من هذه الجنحة لأن قانون العفو يشملك، لكنه لم يقتنع فذهب إلى محامٍ آخر بث في روعه أن القضية خطيرة جداً، و يجوز أن يسجن فيها عشر سنوات، حتى ابتز منه عشرين ألفاً، ولم يكتفِ بهذا بل اتهمني أنني لا أفقه شيئاً بالمحاماة، وقال عني: هذا أجدب، ما عنده فهم، فكان هذا المحامي متألماً لما اتهم به، أما أنا فو الله أيها الأخوة، حينما قال لي هذا الكلام، رأيته إنساناً كبيراً في نظري  قلت له: والله كلام الناس عنك بأنك محامٍ مبتدئ أو ساذج، والله هذا وسام شرف عند الله عز وجل، هذا هو المؤمن، وهكذا يجب أن يكون.  

      أنا أتمنى على أخواننا الكرام أن يتحلوا بالاستقامة، فالإنسان عندما يستقيم فقد تكون عنده إمكانيات كبيرة، ولكن إذا استقام وأرضى الله عز وجل فهو ملِك في الدار الآخرة.  

      فمصعب بن عمير، من أسرة غنية جداً، ولو بقي على دين آبائه لعاش حياة ناعمة جداً، لكن لأنه أسلم والتحق بالنبي عليه الصلاة والسلام، وكان أصحاب النبي رضوان الله عليهم فقراء ضعفاء: ( وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا)  

      أي فقراء وهذا شأن كل نبي، كبراء القوم، أصحاب الغنى، هؤلاء غارقون في شهواتهم، أصحاب القوة غارقون في وجاهاتهم، لكن الضعاف يتبعونه، هؤلاء الضعاف سيغنيهم الله عز وجل، وهذه كلمة قالها النبي الكريم لعدي بن حاتم، لا أنساها ما حييت، قال له: لعلك يا عدي، إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، من فقرهم، وايم الله ليوشكن المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالمرأة البابلية تحج البيت على بعيرها لا تخاف، ولعله إنما يمنعك من دخول في هذا الدين أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، فو الله ليوشكن أن تسمع بالقصور البابلية مفتحة للمسلمين  

      فالبطولة أن تكون مع الحق، وليكن ما يكون، البطولة أن تكون على منهج الله عز وجل غنياً كنت أو فقيراً، فالنبي الكريم قال عن هذا الصحابي:  لقد رأيت مصعباً هذا وما بمكة فتى أنعم عند أبويه منه، ثم ترك ذلك كله حباً لله ورسوله  

      إذا كنت مستقيماً، وحياتك متواضعة فافتخر وازهو، قال تعالى:  ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)  

      آيات كثيرة، تبشر المستقيمين على أمر الله بالفوز في الدنيا والآخرة.  

فشل أم مصعب في تحقيق رغبتها في أن يرجع ابنها  

      أيها الأخوة، حاولت أمه مرة ثانية أن تحبسه ولكنه أصر، وقال:  والله لأقتلن كل من تستعين به أمي على حبسي، علمت أنه صادق وأنه يعني ما يقول، فكفت عنه  

      فلما جرى نقاش بينه وبينها، قال لها:   

      يا أمي، إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، أجابته غاضبة مهتاجة: قسماً بالثواقب لا أدخل في دينك، فيزري برأيي ويضعف عقلي   

      والله هذه عقلها ضعيف، ولو أن عقلها كان راجحاً لآمنت بالنبي عليه الصلاة والسلام، قال عليه الصلاة والسلام:  أرجحكم عقلاً أشدكم لله حباً  

      حينما أسلم وأصر على إسلامه، وترك دين آبائه، حرمه أهله من كل شيء، يقول كتاب السيرة: خرج مصعب من النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة، وأصبح الفتى المتأنق المعطر لا يرى إلا مرتديا أخشن الثياب.  

      فهذه الأخبار عن مصعب تعني أن هذا الصحابي الجليل نموذج لكل شاب ينتمي إلى أسرة غنية.   

      مرة ثانية لأنك مستقيم فدخلك محدود، والله عز وجل لحكمة أرادها جعل الحرام سهلاً، وجعل الحلال صعباً، الحرام سهل، يعني امرأة تشتغل أحياناً ثماني ساعات تأخذ مئة وخمسين ليرة في خدمة شاقة في البيوت، وامرأة تبيع ما وهبها الله من جمالٍ تبيعه بمبالغ طائلة لوقت قصير، فهذه امرأة وهذه امرأة، ولكن أين الثرى من الثريا؟ والإنسان حينما يخلص لله عز وجل يستخدمه في الحق.  

سيدنا مصعب خليفة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة قبل أن يهاجر إليها:  

      سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كان في أصحابه من هو أكبر من مصعب سناً، وأعلى شأناً، وأكثر جاهاً، وأقرب إلى النبي نسباً، لكن عليه الصلاة والسلام ندبه ليكون خليفة له في المدينة قبل أن يهاجر إليها.  

      هناك بالسيرة أمرٌ أقف أمامه محتاراً، أنه حينما هاجر النبي إلى المدينة، كيف أن أهلها خرجوا عن بكرة أبيهم يستقبلونه، ويعظمونه، ويصدقونه، ويحبونه، وهم لم يلتقوا بها من قبل، فهل عرفتم ما السر؟ السر أن هذا الصحابي الجليل الذي أرسله النبي إلى المدينة قبل أن يهاجر إليها جعل الله هداية كبار أصحابه من الأنصار على يديه.  

ا      لمدينة عن بكرة أبيها تخرج لاستقبال النبي و لم يلتقوا به من قبل، ولم يسمعوا كلامه، من الذي جلس بينهم، ودعاهم إلى الهدى، وقرأ عليهم القرآن، وحدثهم عن النبي عليه الصلاة والسلام، بين لهم شمائله الشريف، عرفهم بربهم، بين كمال الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته الفضلى، من هذا الذي كان يعمل ليلاً ونهاراً؟ سيدنا مصعب.  

      يعني ماذا أقول إن صح التعبير؟ إن الأنصار كلهم في صحيفته، تضيق عليك دنياك ويقل دخلك، لكن الله عز وجل يعطيك أضعاف مضاعفة عطاءً لا ينتهي بالموت، يبدأ بعد الموت.  

      فالإنسان لا يقيس نفسه ويقيس الآخرين بالأمور المادية، هذا قياس فاسد، رب أشعث أغبر، ذي طمرين، مدفوع بالأبواب، لو أقسم على الله لأبره، لا تقس نفسك بمساحة بيتك، ولا بمستوى بيتك، ولا بدخلك، ولا بمركبتك، قِس نفسك بطاعتك لله، واجعل قوله تعالى نصبَ عينيك:  ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ )

      صحيح أن هذا الصحابي، فقد الثوب الجميل، والرائحة العطرة، لكنه صار من الخالدين في دنيا الناس، وعند الله تعالى، والإنسان ما له حق في أن يفتخر بدنياه أيها الأخوة، فإذا افتخر بدنياه أفسد حياة الناس وصرفهم عن الآخرة، أما إذا حدثهم عن الله عز وجل فقد قربهم إلى الله، وأصلح عليهم دنياهم.  

أسيد بن حضير ممن أسلم على يد مصعب:  

      هذا الصحابي الجليل قال ذات يوم وهو يعظ الناس، وقد فاجأه أسيد بن حضير، سيد بني عبد الأشهل بالمدينة، وكان يدرس وحوله هؤلاء الذين أحبوا الإسلام، وانشرحت صدورهم له، فاجأه أسيد بن حضير شاهراً حربته يتوهج غضباً على هذا الذي جاء يفتن قومه عن دينهم، وقال له: ما جاء بكما إلى حينا؟ هو وأسعد بن زرارة، وهما أخوان في الإسلام كريمان، تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إذا كنتما لا تريدان الخروج من المدينة، والإنسان إذا وقف الموقف اللين، والموقف الحكيم، فهو عاقل رشيد، و هذا من نعمة الله عز وجل أن موقفاً ليناً فيه حكمة، فقال له مصعب بلسان طيب: أولا تجلس فتسمع فإن رضيت أمرنا قبلته، وإن كرهته كففنا عنك ما تكره، فقال أسيد بن حضير وكان رجلاً عاقلاً: والله أنصفت، ما أحسن هذا القول وأصدقه، فجلس وكان مصعب يتلو عليه القرآن فاستمع إلى القرآن، ودخل إلى قلبه، وشرح الله صدره، فقال أسيد: ما أحسن هذا القول وأصدقه! كيف يصنع من يريد أن يدخل في هذا الدين؟ فأرشدوه إلى ذلك.  

      أسلم أسيد بن حضير، فلما يسلم الكبار، فالصغار يتبعونهم، فسيدنا مصعب وفقه الله في دعوته، فلانت قلوب كبراء المدينة، فلما لانت قلوبهم وأسلموا معه، ودخلوا في هذا الدين العظيم، كل أتباعهم تبعوهم.  

قصة استشهاده:  

      كلكم يعلم أن هذا الصحابي الجليل خاض معركة أحد، وحمل لواء من ألوية أجنحتها، وكلكم يعلم أنه لما جال المسلمون، واشتبكوا مع عدوهم، ثبت مصعب فأقبل ابن قميئة وهو فارس فضربه على يده اليمنى فقطعها، ومصعب يقول: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ )

      وأخذ اللواء بيده اليسرى فضرب يده اليسرى فقطعها، وحنا على اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، وهو يقول: ( وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ)  

      ثم حمل عليه الثالثة بالرمح فأنفذه، واندق الرمح، ووقع مصعب، وسقط اللواء، ووقع شهيداً بل كان كوكباً بين الشهداء.  

      إذا إنسان أحب الله عز وجل واختاره إلى جواره، فهل ضاع عليه شيء؟ لا، قال تعالى: ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)  

      والإنسان عندما يخلص لله عز وجل، ويتوكل على الله عز وجل فقد ربح ورب الكعبة،  فهذا الصحابي الجليل حياته كلها دعوة إلى الله، حياته كلها جهاد، ثم مات شهيداً، فقد فاز ورب البيت.  

      يقول عنه خباب بن الأرت:  هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم  في سيبل الله نبتغي وجه الله، فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى ولم يأكل من أجره في دنياه شيئاً  

      سيدنا عمر، مرة قدم له طعام طيب، فبكى، لماذا بكى؟ تذكر أصحاب النبي الذين ماتوا قبل أن يفتح الله الدنيا على المسلمين ثم جاءتهم الدنيا بعد ذلك راغمة، لكن الصحابة الكرام الذين ماتوا قبل أن تفتح عليهم الدنيا هؤلاء لهم عند الله أجر مضاعف، فالإنسان يستسلم لله عز وجل، هو الرحمن الرحيم، الآية التي تؤثر بالنفس: ( وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) (وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )

      والإنسان دائماً يبحث عن رزقه، ثم يبلغ درجة من الكفاية والحاجة، ويبقى همه الجمع، لكن الله تعالى يقول:  ( وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)  

      هذا سيدنا مصعب قتل يوم أحد، ولم يجدوا له شيئاً ليكفن به إلا نمرة، يعني رداء خشن، فكنا إذا وضعناها على رأسه، تعرّت رجلاه، وإذا وضعناها على رجليه برزت رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام:  اجعلوها مما يلي رأسه، واجعلوا على رجليه من نبات الإذخر،  

      ضعوا قليلاً من حشيش على رجليه، وارفعوا الثوب إلى رأسه  

      هذا سيدنا مصعب بن عمير الذي كان من أرفه، ومن أنعم، ومن أكثر فتيان قريش أناقةً، ونعومةً، ورخاءً، وغنىً، باع دنياه في سبيل الله عز وجل، وإذا اختار الإنسان عملاً نظيفاً، عملاً شريفاً، وعاش حياة مع الله وادعة مطمئنة، فهذا وسام شرف له، افرح بالدخل الحلال، إن كان كثيرا فالحمد لله، هذا من نعم الله عز وجل، لكن إن كان قليلاً وهو حلال، فهذا أفضل من كثيرٍ لا يرضي الله عز وجل، حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام، قال مرة لثعلبة:  يا ثعلبة، قليل تؤدي شكره، خير من كثير لا تؤدي شكره.  

      وقف النبي عليه الصلاة والسلام عند مصعب بن عمير، وعيناه تذرفان بالدموع، وقال:  ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً)  

      ثم ألقى في أسى نظرة على بردته التي كفن بها، وقال:  يا مصعب، لقد رأيتك بمكة، وما بها أرق حلة، ولا أحسن لمة منك، ثم ها أنت شَعِث الرأس في بردة، عندئذ قال عليه الصلاة والسلام: إن رسول الله يشهد أنكم الشهداء عند الله يوم القيامة         فإذا استقمنا، وقرأنا القرآن، وفهمنا القرآن، وخدمنا من حولنا، وكنا أبراراً بوالدينا، ونصحنا المسلمين في بيعنا وشرائنا، وما كذبنا و ما غششنا، إذا فعلت هذا في عصر الفتن، وعصر الضلالات، وعصر الشبهات، وفي عصرٍ فيه القابض على دينه كالقابض على جمر فلك أجر عظيم.  

      النبي الكريم، قال:  اشتقت لأحبابي، قالوا: أو لسنا أحبابك، قال: لا، أنتم أصحابي، أحبابي أناس يأتون في آخر الزمان، القابض منهم على دينه كالقابض على جمر، أجره كأجر سبعين، قالوا: منا أم منهم، قال: بل منكم، قالوا: ولم؟ قال: لأنكم تجدون على الخير معواناً ولا يجدون  

      المسلم المؤمن غريب، يعني أن أقرب الناس إليه يستنكر استقامته، يُستنكر إذا أراد ألا يختلط مع الناس، ترى إنساناً أهله يوصفون بأنهم محافظون، فهؤلاء الذين زعموا أنهم محافظون يريدون اختلاط للجنسين، ويريدون أن يسفر وجه المرأة، ويحتالون ليجدوا إلى التفلت من أمر الله عز وجل سبيلاً يسلكوه.  

الخاتمة:  

      فالشيء الذي يبرز في حياة هذا الصحابي الجليل، أنه كان من أسرة غنية، فلما أصر على إسلامه وإيمانه، فقد كل ما يمكن أن يناله من والديه، فعاش فقيراً، ونذر نفسه لهذا الدين العظيم، فاختاره الله ليكون خليفة النبي في المدينة.  

      لذلك يمكن أن نذكر ثانية أن أكثر الأنصار كانوا في صحيفته، هذا عمل عظيم، والنبي الكريم كان إذا أراد أن يصلي أزاحت السيدة عائشة رجليها لأن غرفته لا تتسع لصلاته ونومها، والآن اذهب إلى مقامه الشريف يطالعك أضخم مسجد في العالم.  

      النبي عاش حياة خشنة، لكن عرف المسلمون قيمته وقدره، كل هذا الاعتناء دليل مقامه العظيم عند الله عز وجل، الدنيا تضر، حاول أن تكون على أمر الله، وأن تكون مستقيماً   و أن تكون ملتزماً، فهذا الصحابي الجليل قدوة لنا، لا يخفضك عند الله دخلك القليل، ولكن يخفضك معاصيك.  

      لذلك مصعب هذا قدوة لكل شاب عاش بأسرة مرفهة، ناعمة، فلما أصر على إيمانه وإسلامه، والناس تخلوا عنه، عاش حياة خشنه، ومن كان كذلك فله بهذا الصحابي الجليل، أسوة حسنة.   



المصدر: السيرة - رجال حول الرسول - الدرس (12-50) : سيدنا مصعب بن عمير