بحث

نعيم بن مسعود رجل منطق وموقف

نعيم بن مسعود رجل منطق وموقف

بسم الله الرحمن الرحيم

بماذا كان يتصف نعيم بن مسعود في جاهليته الأولى ؟  

      أيها الأخوة الكرام، مع سيرة صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا نعيم بن مسعود.  

هذا الصحابي الجليل يتمتع بقدْرٍ عالٍ جداً من الذكاء، واخترتُ هذا الصحابي لأبيِّن لكم أنه يمكن أن يوظَّف الذكاء في سبيل الحق، ربما كانت معركة الخندق والنصر الذي حصل فيها، ربما في جزء كبير منه يرجع الفضل فيه إلى هذا الصحابي الجليل لذكائه الذي استخدمه في سبيل الحق، فما أكبَرَ خسارة ذلك الإنسان العاقل الذكي الذي يوظف ذكاءه للإيقاع بين الناس، أو لجمع الدرهم والدينار، أو لاقتناص المناسبات، ويأتي يوم القيامة صفر اليدين.  

      هذا الصحابي الجليل كان فتىً يقظَ الفؤاد، ألمعي الذكاء، خرّاجًا ولاّجًا، وهو تعبير يشفُّ عن مرونته، وعن ذكائه الاجتماعي،   

      وكان خراجاً ولاجاً، لا تعوقه معضلة، ولا تعجزه مشكلة، متَّقدَ الذكاء، بالتعبير الحديث، الخط العريض في المجتمع مَن يتمتع بدرجة ذكاء تساوي مئة، والمئة تساوي المتوسط، والعباقرة درجتهم بالذكاء تزيد عن مئة وأربعين، لكن هذا الحظ من الذكاء قد يؤدي بصاحبه إلى أعماق جهنم مرة بعد مرة، والحظوظ التي تنالها من الله إمّا أنها درجات إلى الجنة، وإما أنها دركات إلى النار، بالصوت الحسن قد تقرأ القرآن، وقد تغني، والمهارات بأنواعها قد توظفها في الحق أو بالباطل.  

      هذا الصحابي الجليل يتمتع بصحِة حدث، وسرعة بديهة، وشدة دهاء، ولكنه كان في الجاهلية صاحب صبوة، وخَدِين متعة، وكان يَنشُدُهما أكثر ما يَنشُدُهما عند يهود يثرب، وسوف ترون كيف أنّ المؤمن إذا تعرف إلى الله أقل ما يقال بأنه غَيَّر سلوكَه مئة وثمانين درجة؟ رجُل بْسطٍ، رجل شراب، رجل نساء، كان ينشد هذه المتعة عند يهود يثرب في المدينة، هذا في الجاهلية، ولكن ما قولكم: إنّه من رحمة الله تعالى أنْ فتح باب التوبة لعباده، قال تعالى: ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ )

      باب التوبة مفتوح على مصراعيه، كان كلما تاقت نفسه لقينة، أو هفَّ سمعه لوتر شدّ رحاله من منازل قومه في نجد، ويَمَّمَ وجهه شطر المدينة، حيث يبذل المال ليهودها بسخاء، ليبذلوا له المتعة بسخاء أكثر، هذه صفحة من جاهليته، ومن هنا كان نعيم بن مسعود كثير التردد على يثرب، وثيق الصلة بمَن فيها من اليهود، وبخاصة بني قريظة، هذا قبل أن يسلم.  

ما سبب إعراض نعيم عن رسالة الإسلام ؟  

      لما بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام إلى العالمين، أعرض هذا الصحابي عن الدين الجديد أشد الإعراض، خوفاً من أن يحول هذا الدين بينه وبين متعه وملذاته.  

      هذا الوهم الكبير الذي عند معظم الناس أنه إذا تديَّن فسوف يحرم من مباهج الحياة، من متع الحياة، من الملذات، ومن المسرات، ومن السهرات المختلطة، ومن النزهات، من السهرات الصاخبة، هكذا يتوهم بعضهم، ولو علم هؤلاء المتوهمون أن في الدين سعادةً لا تعدلها سعادة، ولو اطلع عليها الملوك لقاتلوا عليها أهلها، ولكنهم لا يعلمون، فقد تستمتع بشيء منحه الله بعض الجمال، فكيف إذا أقبلت على منبع الجمال؟  أبيت عند ربي يطعمني ويسقين  

      صدق القائل:  

لو شاهدت عيناك من حسننا الذي***رأوه لما وليت عنا لغيــــرنا  

      هذا الصحابي وجد نفسه مسوقاً إلى الانضمام شاء أو أبى إلى خصوم الإسلام، والإنسان لا يستطيع أن يخفي هويته دائماً، فأحياناً تضعه الظروف في مواقف حرجة، فإن لم يعلنها مدوية أنه مسلم، فسوف يجر إلى مواقف محرجة جداً، كثير من الأشخاص يعتذر عن شرب الخمر، ويقول: يصيب معدتي منها حموضة، لا هذه فلسفة فارغة، أنا مسلم لا أشرب الخمر، لأنك إذا امتنعت عن معصية لأسباب غير دينية، لم تكن داعية إلى الله عزوجل، أما إذا امتنعت عن معصية لأسباب دينية، فلعل الناس يقتدون بك، ويرونك مثلاً أعلى، لا تَخَفْ، فكلمة الحق لا تقطع رزقاً، ولا تقرب أجلاً.  

 

موقف غير منحى حياة الصحابي نعيم بن مسعود:  

      أيها الأخوة أتمنى على الله عزوجل أن تضعوا أيديكم على هذا الموقف الخطير، لحظة تفكير سليمة، محاكمة منطقية، مراجعة مع نفسه، تأمل دقيق، تبَصُّر عميق، لقد استخدم عقله، وحقَّق كل سعادته في الدنيا وفي الآخرة، بفضل هذه المحاكمة، فلا ينبغي للإنسان أن يمضي مع الحياة دون تأمل، دون توقف، دون تبصر، ودون مراجعة.  

      هذا الصحابي في غزوة الأحزاب فتح صفحة جديدة في علاقته بهذا الدين، ووقف موقفًا لا ينسى، إن صح التعبير وقف موقفاً تاريخياً، لأن التاريخ سجله له، وكل سعادتك أحياناً سببها تفكير صحيح، ومحاكمة منطقية، وإعمال العقل.  

أنا أبحث عن قصة لهذا الصحابي يرويها هو عن نفسه، فهذا الصحابي ما الموقف الذي وقفه؟ لا بد من تمهيد لهذا الموقف بما يسمى بفرش تاريخي.  

      قبيل غزوة الأحزاب بقليل هبَّت طائفة من يهود بني النضير في يثرب، وقام زعماؤها يُحزِّبون الأحزاب لحرب النبي صلى الله عليه وسلم، والقضاء على دينه، فقدموا على قريش، وحرضوهم على قتال المسلمين، وعاهدوهم على الانضمام إليهم عند وصولهم إلى المدينة، وضربوا لذلك موعداً لا يخلفونه، ثم تركوهم، وانطلقوا إلى غطفان في نجد، قوم نعيم بن مسعود، فأثاروهم ضد الإسلام ونبيه، ودعوهم إلى استئصال الدين الجديد من جذوره، وأسرُّوا بينهم بما تم بينهم وبين قريش، وعاهدوهم على ما عاهدوهم عليه، وآذنوهم بالموعد المتفق عليه، فما الذي حصل؟.  

      خرجت قريش بقضها وقضيضها، وخيلها ورَجِلها، بكل ما تملك، وبكل وزنها، وبكل ثقلها، وكل طاقاتها، بقيادة زعيمها أبي سفيان بن حرب متجهةً شطر المدينة، كما خرجت غطفان من نجد بعدتها وعددها، بقيادة عيينة بن حصين الغطفاني زعيمها، وكان في طليعة رجال غطفان نعيم بن مسعود صاحب هذا الدرس.  

      فلما بلغ النبيَّ نبأُ خروجهم جمع أصحابه، وشاورهم في الأمر، فقرَّ قرارُهم على أن يحفروا خندقًا حول المدينة، ليصدوا عنها هذا الزحف الكبير الذي لا طاقة لها به، فغزوة الخندق كانت زلزلة شديدة للمؤمنين، قال تعالى: ( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً )

      هذا أسلوب اسمه الفرزُ العلمي، فمن غير امتحان الناس كلهم متشابهون، وبالامتحان يفرز الناس، بين صادق، وبين رجل أقل صدقاً، وبين رجل خائف، ورجل كاذب منافق، والحدث هو الذي يفرز، والواقع أنّ رجلاً منافقًا، قال:  أيَعِدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى، و أحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته، لكن كما قال الله عز وجل: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً )

      أيها الأخوة، ما كاد الجيشان الزاحفان من مكة ونجد يقتربان من مشارف المدينة حتى مضى زعماء بني النضير إلى زعماء بني قريظة القاطنين في المدينة، وجعلوا يحرضونهم على الدخول في حرب النبي، ويحضونهم على مؤازرة الجيشين القادمين من مكة ونجد،   

      فقال لهم زعماء بني قريظة: لقد دعوتمونا إلى ما نحبُّ ونبغي، ولكنكم تعلمون أن بيننا وبين محمدٍ ميثاقاً، على أن نسالمه ونوادعه لقاء أن نعيش في المدينة آمنين مطمئنين، وأنتم تدرون أن مداد ميثاقنا له لم يجفَّ بعد، فكيف نخون محمدًا؟ نخشى إذا انتصر محمد في هذه الحرب أن يبطش بنا بطشة جبارةً، وأن يستأصلنا من المدينة استئصالاً، جزاء غدرنا به،   

      لكنَّ زعماء بني النضير ما زالوا يغرونهم بنقض العهد، ويزيِّنون لهم الغدر بمحمد، ويؤكدون لهم بأن الدائرة ستدور على المسلمين في هذه المرة لا محالة، ويشدون عزمهم بقدوم الجيشين الكبيرين، فما لبثت بنو قريظة أن لانت، ونقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ومزقوا الصحيفة التي بينهم وبينه، وأعلنوا انضمامهم إلى الأحزاب في حربه.  

      أيها الأخوة، فوقع الخبر على المسلمين وقوع الصاعقة، قال تعالى: ( إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا )

      النبي عليه الصلاة والسلام يواجه الأحزاب خلف الخندق، وخلفه في المدينة نقض اليهود عهدهم، وأصبح محاصرًا، وصدِّقوا أيها الأخوة أن الإسلام بتقدير الخبراء قد انتهى، لم تنته المعركة فحسب، بل الإسلام انتهى بتقديرهم، وهذه الحرب كان هدفها القضاء على الإسلام كلياً، لأنها حرب إبادة، فهؤلاء المسلمون يجب أن يبادوا عن بكرة أبيهم، هنا عظمة الدين، وهذا دين الله عزوجل، وزوال الكون أهون من أن يزول هذا الدين، وهذا الدين كلما ضُغِطَ عليه قويَ، لأن الله معه.  

      حاصرت جيوشُ الأحزاب المدينةَ، وقطعت عن أهلها الميرة والقوت، وشعر النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقع بين فكي كماشة، بالتعبير الحديث، فقريش وغطفان معسكرون قبالة المسلمين خارج المدينة، وبنو قريظة متربصون متأهلون خلف المسلمين داخل المدينة، وعندك الطابور الخامس، هؤلاء هم المنافقون ضمن المدينة، وهم عند المسلمين مسلمون، لكنهم منافقون حقًّا، وهؤلاء الذين في قلوبهم مرض أخذوا يكشفون عن مخبآت نفوسهم، ويقولون: كان محمد يعدنا أن نملك كنوز كسرى وقيصر، وها نحن اليوم لا يأمن الواحد منا على نفسه أن يذهب إلى بيت الخلاء ليقضي حاجته، رجل موعود أن يفتح الشرق والغرب كله، ووجد نفسه محاصرًا في بيته، أين سراقة؟ كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟ والإسلام في نظر أعدائه بقي موضوع ساعات، ساعات وينتهي الإسلام، أنت أحيانًا تمر باختناق في حياتك، وأنت كمؤمن تمر باختناق شديد، قال تعالى: ( وكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ )

(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )

       لكنَّ الإيمان ألاَّ تقنط من رحمة الله، وألاّ تيأس من رحمة الله، قال تعالى: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ )

      ربنا عزوجل يؤخر النصر، وبهذا التأخير تنكشف النفوس كلها، ثم طفق المنافقون ينفضون عن النبي جماعة إثر جماعة، بحجة الخوف على نسائهم وأولادهم وبيوتهم من هجمة يشنها عليهم بنو قريظة، قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَاراً )

      حتى لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم سوى بضع مئات من المؤمنين الصادقين، عشرة آلاف مقاتل حول المدينة، وبنو قريظة بأكملها نقضت عهدها، وهي وراء ظهر النبي، والمنافقون يثبطون العزائم، ويحبطون المساعي، أعتقد أنه ما مرت الدعوة الإسلامية بمأزق أشد من هذا المأزق، قال تعالى: ( هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً )

      وفي ذات ليلة من ليالي الحصار الذي دام تقريبًا عشرين يوماً لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه، وجعل يدعوه دعاء المضطر،   

      فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ، فَقَالَ:  اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمْ الْأَحْزَابَ اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ  

      يا أيها الأخوة، تعلموا هذا السلوك من رسول الله، كان إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة، والإنسان المسلم إذا وقع في مشكلة، أو في ورطة كبيرة، أو في مأزق حرج، وغلا دمه في عروقه فعليه أن يلجأ إلى الله، وأنا أنصح نصيحة مشابهة، إذا حزبك أمر فبادرْ إلى ركعتين قبل الفجر، لأن الله عزوجل يقول: ينزل إلى السماء الدنيا، كما جاء في الحديث   

      قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ  

 

إسلام نعيم بن مسعود:  

      نعيم بن مسعود مع معسكر الكفار والمشركين، أحد زعماء غطفان وهو مستلقٍ على فراشه في الخيمة، يتقلب على مهاده أرقاً، كأنما سمر جفناه، فما ينطبقان لنوم، فجعل يسرح ببصره وراء النجوم السابحة على صفحة السماء الصافية، ويطيل التفكير، وفجأةً رأى نفسه تسأله   

      قائلةً:  ويحك يا نعيم،   

      هذا هو الحوار الداخلي  

       ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نجد لحرب هذا الرجل، ومن معه؟ هل هي حرب مقدسة، أم حرب قذرة؟ فأنت لا تحاربه انتصاراً لحق مسلوب، ولا حمية لعرض مغصوب، وإنما جئت لتحاربه لغير سبب معروف.  

      لا تكن أحدكم إمعة، وتقول: أنا مع المجموع، لعل المجموع على خطأ، أنا مع أهلي، لعل أهلك على خطأ، أنا مع أبناء الحي، ولعل أبناء الحي على خطأ، أنا مع أصدقائي لعلهم على خطأ، لا تكن أحدكم إمعة، وتكن أداة رخيصة، ولا تكن منديلاً تُمسَح به أقذر عملية، ثم يرمى، لا تكن كذلك، لا تكن أداةً، لا تكن صنيعةً، لا تكن وسيلة، بل كن حراً تتحرك من قناعتك، وتتحرك بوحي من إيمانك، وبوحي من عقيدتك، تحرَّكْ بوحي من الحق والإنصاف، ولا تكن رقمًا مع الأرقام، ولا تكثر سواد الباطل.           

      قال:  إنك لا تحاربه انتصارًا لحق مسلوب، أو حمية لعرض مغصوب، وإنما جئت تحاربه لغير سبب معروف، أيليق برجل له عقل مثل عقلك أن يقاتل فيقتل، أو يقتل لغير سبب؟   

      ومن علامات قيام الساعة موت كعقاص الغنم لا يدري القاتل لِمَ يقتل، ولا المقتول لما قُتِل،   

قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِي أَيِّ شَيْءٍ قَتَلَ، وَلَا يَدْرِي الْمَقْتُولُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ قُتِلَ  

      لا يوجد سبب   

       ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح،   

      ولم يعرِّفه بنبيّ،   

       الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؟ ويحك يا نعيم، ما الذي يحملك على أنْ تغمس رمحك في دماء أصحابه الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق،   

      هذه المناقشة التي كانت سبب سعادته إلى أبد الآبدين، وأنا أقسم لكم أن أناسًا كثيرين ماتوا على الشرك، لا لأنهم كانوا فعلاً مشركين، إلا أنهم كانوا مع أتباعهم هكذا، لم يفكر، وإنما يعيش مع المجموع، ومع التيار العام، فسق على فسق، ولم يحسم هذا الحوار العنيف بين نعيم ونفسه إلا القرار الحازم الذي نهض من توئه لتنفيذه.  

      أنت عندك إمكانية أن تتخذ قرارًا حازمًا، يا رب أعاهدك على طاعتك مهما كلف الثمن، لك مهنة لا ترضي الله، فعليك أن تستقيل منها سريعًا، لك تصرف ليس في صالح الشرع،  فلتنزع عنه مباشرة.  

      تسلل نعيم بن مسعود من معسكر قومه تحت جنح الظلام، ومضى يحث الخطى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مشرك مع الأعداء جاء ليقاتل المسلمين، فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام ماثلاً بين يديه،   

       قال: نعيم بن مسعود!   

             قال: نعم يا رسول الله،   

قال: ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟   

       قال يا رسول الله: جئت لأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله، وأنّ ما جئتَ به الحق، ثم أردف يقول: لقد أسلمت يا رسول الله، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمُرْني بما شئت،   

      كنت أقول دائماً:   

      الإيمان ما إن يستقر في قلب المؤمن حتى يعبِّر عن نفسه بالحركة، ليس هناك مؤمن سلبي، المؤمن إيجابي، ويدعو إلى الله، والمؤمن يعطي من كل شيء،   

      فالإيمان أساسه العطاء، وأن يعطي من كل شيء عنده، فكل إنسان يدَّعي أنه مؤمن، ولو فرضنا أنه بقي في مكانه وآمن، أنا أمنتُ، والدين معقول، وأنا يجب أن أسلم، ويقبع في مكانه، لا، لا يجوز له أن يبقى في مكانه،  

       عندما أسلم نهض، وتوجه إلى رسول الله وقال له: مُرْنِي بما شئت،   

      النبي عليه الصلاة والسلام في مواجهة عشرة آلاف رجل بأسلحتهم الفتاكة، واليهود نقضوا العهد، والإسلام صار موضوع ساعات، فماذا يفعل رجل واحد؟  

       فقال عليه الصلاة والسلام: إنما أنت فينا رجل واحد،  فاذهب إلى قومك وخذِّلْ عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة.  

الآن، سيوظف ذكاءه، وعقله الكبير، وسرعة بديهته، وفطانته، وكل أساليبه الذكية، الآن سيوظفها لصالح الدين الجديد،   

       قال: نعم يا رسول الله، وسترى ما يسرك إن شاء الله.  

      الله عزوجل يقدر نصر حركة كبيرة، والمرجح أن المسلمين سيفوزون بها على يد رجل واحد.  

       مضى نعيم بن مسعود من توئه إلى بني قريظة، وكان لهم من قبل صاحباً ونديماً، وقال لهم: يا بني قريظة، لقد عرفتم وُدِّي لكم، وصدقي في نصحكم، فقالوا: نعم، والله ما أنت عندنا بمتهم، فقال: إن قريشًا وغطفان لهم في هذه الحرب شأن غير شأنكم،   

      قالوا: وكيف؟  

       قال: أنتم هذا البلد بلدكم، وفيه أموالكم، وأولادكم ونساؤكم، وليس بوسعكم أن تهجروه إلى غيره، أما قريش وغطفان فبلدهم وأموالهم وأولادهم ونساؤهم في غير هذه البلد، وقد جاؤوا لحرب محمد، ودعوكم لنقض عهده، ومناصرتهم عليه، فأجبتموهم، فإن أصابوا نجاحاً في قتاله اغتنموه، وإن أخفقوا في قهره عادوا إلى بلادهم آمنين، وتركوكم وحدكم، فينتقم محمد منكم شر انتقام، وأنتم تعلمون أنه لا طاقة لكم به إذا خلا بكم،   

      فقالوا: صدقت واللهِ أشرتَ ونصحتَ، بارك الله بك،   

       ثم خرج من عندهم.وأتى أبا سفيان بن حرب قائد قريش، وقال له ولمن معه: يا معشر قريش، قد عرفتم ودي لكم، وعداوتي لمحمد،   

      فقالوا: نعم،   

       وقد بلغني أمر فرأيت حقاً عليَّ أن أفضي به إليكم، نصحاً لكم، على أن تكتموه، ولا تذيعوه،  

      قالوا: لك علينا ذلك،   

       قال: إنّ بني قريظة قد ندموا على مخاصمتهم محمدًا، فأرسَلوا إليه يقولون: إنا قد ندمنا على ما فعلنا، وعزمنا أن نعود إلى معاهدتك ومسالمتك، فهل يرضيك يا محمد أن نأخذ لك من قريش وغطفان رجالاً كثيراً من أشرافهم، ونسلمهم إليك لتضرب أعناقهم، ثم ننضم إليك في محاربتهم حتى نقضي عليهم؟ فأرسل إليهم النبي، وقَبِلَ منهم ذلك، فإنْ بعثت اليهود يا أبا سفيان تطلبُ منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم أحداً،   

      قال أبو سفيان: نِعْمَ الحليف أنت، بارك الله بك، وجزيت خيراً، فقد أنقذتَنا.  

ثم خرج نعيم من عند أبي سفيان حتى أتى قومه غطفان، فحدثهم بمثل ما حدث به أبا سفيان، وحذرهم مما حذره منهم، وهنا انتهت مهمته،   

      أراد أبو سفيان أن يختبر بني قريظة، فأرسل إليهم ابنه، فقال لهم: إن أبي يقرئكم السلام، ويقول لكم: إنه قد طال حصارنا لمحمد وأصحابه، حتى مللنا، وإننا قد عزَمْنا على أن نقاتل محمداً، ونفرغ منه، وقد بعثني أبي إليكم يدعوكم إلى منازلته غداً،   

فقالوا له: إن اليوم يوم سبت، ونحن لا نعمل فيه شيئاً، ثم إنا لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين من أشرافكم، وأشراف غطفان، حتى يكونوا رهائن عندنا، فإنا نخشى إن اشتدَّ عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم، وتتركونا لمحمد وحدنا، وأنتم تعلمون أن لا طاقة لنا به.  

      الخطة نجحت مئة بالمئة امتحنهم أبو سفيان، وطلبوا رهائن، والرهائن من أجل أن يذبحهم النبي،   

      فلما عاد ابن أبي سفيان إلى قومه، وأخبرهم بما سمعه من بني قريظة، قالوا بلسان واحد: خسئ أبناء القردة والخنازير، واللهِ لو طلبوا منا شاة رهينةً ما دفعناها إليهم، وهكذا دبَّتْ بينهم الوقيعة.  

اللهم اضرب الظالمين بالظالمين، وأخرجنا منهم سالمين،  

      نجح نعيم بن مسعود في تمزيق صفوف الأحزاب، وتفريق كلمتهم  

      أرسل اللهُ على قريش وأحلافها ريحاً صرصراً عاتية، فجعلت تقتلع خيامهم، وتكفأ قدورهم، وتطفئ نيرانهم، وتصفع وجوههم، وتملأ أعينهم تراباً، فلم يجدوا مفراً من الرحيل، فرحلوا تحت جنح الظلام، ولما أصبح المسلمون وجدوا أعداء الله قد ولوا مدبرين،   

      وجعلوا يهتفون بعد أيام عيد الفطر السعيد، ومن الأوراد المتعارف عليها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ:  لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ  

      ظلّ نعيم بن مسعود بعد ذلك اليوم موضع ثقة رسول الله، فهذا عمل، ولمثله فليعمل العاملون.  

 

نعيم بن مسعود و أبو سفيان يوم فتح مكة:  

      أيها الأخوة، ما منكم واحد إذا طلب من الله عملاً عظيماً إلا يجريه على يديه إلاّ يسّره له، وأجراه على يديه، فكن طموحًا، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ )

      تعلم العلم، وانشر العلم، وادعُ إلى الله، وكن مثلاً أعلى لأخوانك ولأصحابك، وكن نجمًا متألقًا.  

      فولي نعيم للنبي عليه الصلاة والسلام الأعمال، ونهض له بالأعباء، وحمل بين يديه الرايات، فلما كان يوم فتح مكة، هنا وقف أبو سفيان بن حرب يستعرض جيوش المسلمين، فرأى رجلاً يحمل راية غطفان،   

      فقال لمن معه: من هذا؟ فقالوا: هذا نعيم بن مسعود، قال: بئس ما صنع بنا يوم الخندق، واللهِ لقد كان أشدَّ الناس عداوة لمحمد، وها هو ذا يحمل راية قومه بين يديه، ويمضي لحربنا تحت لوائه إنّ المؤمن كيس فطن حذر،   

      قال تعالى:  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً  

 

محور هذه القصة:  

      أيها الأخوة، محور هذه القصة أن هذه الطاقة الفكرية العالية التي تمتع بها هذا الصحابي الجليل وظّفها في الحق، ولا تنسوا قوله تعالى حينما خاطب الله عزوجل قارون، فقال في كتابه العزيز:  وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ  

      سمعت عن امرأة صالحة كان لها بيت مساحته أربعمئة متر، باعته واشترت بيتًا مساحته مئة متر، والباقي وزّعته على الفقراء، والمساكين، وطلبة العلم، والمحتاجين، ولقيت ربَّها بثلاثمئة متر فائضًا عن حاجتها، فلا بد من عمل تقدِّمه بين يديك، ولا بد من عمل يعرض على الله عزوجل، ولا بد من عمل ترقى به في الجنة، أليس لك شيء؟ ولو دللتَ إنسانًا واحدًا على الله عزوجل، أمَا ساهمت أبداً في هداية واحد، أما أقنعت واحدًا يؤمن بالله عزوجل، أما حاولت أنْ تزور إنسانًا لوجه الله، أما حاولت أن تحضر مجلس علم حتى تتعلم وتُعلِّم.  

          أيها الأخوة الأكارم، كما ورد في بعض الأدعية، يا رب لا يحلو النهار إلا بخدمة عبادك، ولا يحلو الليل إلا بمناجاتك، فمن عرف طريق السعادة لزمها، قال عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه:  عرفت فالزم، وإني لك ناصح أمين  



المصدر: السيرة - رجال حول الرسول - الدرس (23-50) : سيدنا نعيم بن مسعود