بحث

علي بن أبي طالب2 فتى الإسلام الأول و ربيب القرآن

علي بن أبي طالب2 فتى الإسلام الأول و ربيب القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

     هذا الصحابي الجليل وهو ابن عم النبي الذي انضمَّ إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو في السادسة من عمره، وحينما جاءت النبي صلى الله عليه وسلم رسالة الهدى، كان سن هذا الصحابي لا تزيد عن عشر سنين، إذن هو أصغر مَن أسلم، أول من أسلم السيدة خديجة رضي الله عنها زوجة النبي، وأسلم خادمه زيد بن حارثة أيضاً، هؤلاء الثلاثة أول من دخل في الإسلام، سيدنا علي أتى عليه وقتٌ كان ثُلُث الإسلام وحده. رأى النبي عليه الصلاة والسلام يصلي, فقال: ماذا أراك تصنع؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "إني أصلـي لـرب العالمين" سأل عليٌ رضي الله عنــه: ومن يكون رب العالمين ؟ بهذه البساطة، فقال عليه الصلاة والسلام: يا علي إنه إلهٌ واحد لا شريك له، له الخلق وبيده الأمر، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قدير". أرأيتم إلى هذا التعريف؟ إنـه إلهٌ واحد لا شريك له، له الخلق وبيده الأمر، يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير . 

     فحينما جاءت رسالة السماء كان أولَ مَن أسلم مِن الفتيان، وقد تأدَّب بأدب النبي، هذا الصحابي الجليل إن صح التعبير هو ربيب القرآن، القرآن الكريم رباه منذ نشأته وحتى نهاية حياته، حينما انضم إلى النبي ونزلت أول آيةٍ كان في بيت النبوة، لذلك سمي عند علماء السيرة بحقٍ ربيب القرآن، مرةً قال: "سلوني وسلوني وسلوني عن كتاب الله ما شئتم، فو الله ما من آيةٍ من آياته إلا وأنا أعلم متى أنزلت في ليلٍ أو في نهار، وفيما نزلت، ولم نزلت؟" أي ما أسباب نزولها؟ وما ملابسات نزولها؟ ومن تعني؟ وما تعني ؟. أي إن عزيمته قرآنية، وعلمه قرآني، وعمله قرآني، وهو الكتاب الوحيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الكتاب الوحيد الذي لا فقر بعده، ولا غنى دونه، من أوتي القرآن فرأى أن أحداً أوتي خيراً منه فقد حقَّر ما عظَّمه الله،  
     مرةً كان هذا الصحابي الجليل يقرأ القرآن، فلما وصل إلى قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَصار يقول: "فبأي حديث، فبأي حديث، لا بحديثٍ غير حديثك نؤمن يا رب كل شيء".  

     لهذا الصحابي الجليل مزيةٌ انفرد بها، لما تمَّت هجرة النبي عليه الصلاة والسلام آخى بين المهاجرين والأنصار ، وجعل لكل أنصاريٍ أخاً من المهاجرين، حتى إذا فرغ عليه الصلاة والسلام مِن دمجهم في هذا الإخاء العظيم رنا بصره تلقاء شابٍ عالي الجبهة، ريَّان النفس، مشرق الدين، وأشار النبي لهذا الشاب أن أقبل، فأقبل عليه، أجلس النبي علياً إلى جواره وربت على كتفه وضمَّه إليه, وهو يقول:  " وهذا أخي ".

     أفصح كلامٍ بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق هو كلام الإمام علي، قال عليه الصلاة والسلام: "أنا مدينة العلم وعليٌ بابها". يقول علماء السيرة عن هذا الإمام الجليل: "لم يكن بين ما يقول وبين ما يفعل بُعدٌ ولا مسافةٌ ولا فراغ".  

     يقول هذا الإمام الجليل: "تعلموا العلم تعرفوا به، واعملوا تكونوا مِن أهله “, هل لاحظتم الفرق الدقيق؟ إن عملتم بما علمتم فأنتم من أهل العلم، أما إن تعلمتم وتكلمتم فالأمر وبالٌ، ”ألا وإن الدنيا قد ارتحلت مدبرةً، وإن الآخرة قد أتت مقبلةً، ولكل واحدةٍ منها بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا" . 

     يقول هذا الإمام الجليل: "إن المضمار اليوم وغداً السباق…"، الآن استعداد، كأيام الامتحانات، والامتحان هو الامتحان، وبعد الامتحان يُكرم المرء أو يهان، لذلك قال سيدنا علي: " الغنى والفقر بعد العرض على الله “، ما قيمة الحياة الدنيا كلها إذا قيست بالأبد؟ صفر، ما قيمة الستين عامًا نعيشها في الدنيا؟ ما قيمة ثمانين عامًا؟ لا شيء أمام الأبد، فعندما يضحِّي الإنسان بالأبد أمام حياة قصيرة، يكون في عقله خلل، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: أرجحكم عقلاً أشدُّكم لله حباً “. قال: ”إن المضمار اليوم وغداً السباق، ألا وإنكم في أيام أمل من ورائه أجل, واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا فمن قصَّر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خاب عمله، ألا وإني لم أرَ كالجنة نام طالبُها، ولم أرَ كالنار نام هاربُها، ألا وإنّ مَن لم ينفعه الحقُّ ضرَّه الباطل"، ليس مِن إنسان حيادي تماماً.  

     لكن قد تتوهمون أن هذا الإمام الجليل انسحب من الدنيا، وتركها لأهلها، ولم يعتنِ بها، وكأنه عاش على هامش الحياة، لا، استمعوا بعنايةٍ فائقة إلى وصف هذا الإمام الجليل للدنيا، قال: الدنيا دار صدقٍ لمن صدقها، ودار نجاةٍ لمن فهم عنها، ودار غنىً وزادٍ لمن تزوَّد منها، مهبط وحي الله، ومسجد أنبيائه، ومتجر أوليائه ربحوا فيها الرحمة واكتسبوا فيها الجنة". يقول عليه الصلاة والسلام: "ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته". لا بد أن تكون على شيء، قيمة المرء ما يحسنه، لك اختصاص، لك مهنة، لك حرفة، متفوق في شيء، فهذا الشيء توظفه في سبيل الله. 

 

     وكان يقول في بعض أقواله: "بئس النصر الذي يكون فيه المنتصر شراً من المنهزم". ومن أقواله الرائعة, يقول: "عباد الله أُوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خير ما تواصى به عباده  وأقرب الأعمال لرضوانه"، واللهُ عزّ وجل ينبئنا أن المقياس الوحيد الذي يقيس به عباده هي طاعته, قال تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾.

     قال الإمام علي: "فاحذروا من الله ما حذَّركم من نفسه، فإنه حذَّر فبأسه شديد، واعملوا من غير رياءٍ ولا سمعة، فإن مَن عمل لغير الله وكَّله الله إلى ما عمل ومَن عمل مخلصاً له تولاَّه الله، أعطاه فضل نيته، أشفقوا من عذاب الله فإنه لن يخلقكم عبثاً, ولم يترك شيئاً من أمركم سدى، وقد سمَّى آثاركم، وعلم أسراركم، وأحصى أعمالكم ، وكتب آجالكم، فلا تغرنكم الدنيا، فإنها غرارةٌ لأهلها، والمغرور مَن اغتر بها" .  

     وقال أحد محللي السيرة عن سيدنا علي: "لو شاء هذا الإمام الجليل لكان داهيةً لا يشقُّ له غبار، فحدة ذكائه واتقاد بصيرته يعطيانه من الدهاء ما يريد، ولكن تخلَّى عن كل مواهب الرجل الداهية، وأحل مكانها مواهب الرجل الورع" . 



المصدر: الخلفاء الراشدين : سيدنا علي بن أبي طالب 2 - نشأته وعلمه